باكستان التي رأيت من ذاكرة الطفولة في السعودية إلى خضرة تلال مارقلا
22 مشاهدة
حين حطت قدمي في إسلام أباد قبل عام لم أشعر أنني أهاجر إلى آخر الأرض كان في الهواء شيء مألوف وفي الوجوه ظل معرفة قديمة لقد عرفنا الباكستانيين منذ طفولتنا في السعودية عمالا مهرة أطباء ومهندسين معلمين وتجارا وسائقي حافلات ومسؤولي صيانة عرفناهم قبل أن نعرف الجغرافيا شركاء رزق وجيرة وصلاة وصلاح كانوا ينهضون مع الفجر إلى أعمالهم بجد صبور وابتسامة تشبه دعاء الأمهات لذلك لم تكن الغربة في باكستان غربة قلب كانت فقط انتقالا من معرفة قديمة إلى معايشة أجمل media 2615525 إسلام أباد مدينة ترتب الخضرة على مهل إسلام آباد مدينة تكتب نفسها بالحرف الأخضر ممرات مشجرة هواء نظيف انسياب هادئ للشوارع وجبال مارجلا تشرف كأنها أم تسدل ظلها على أبنائها بعد أمطار المساء يفوح التراب هنا برائحة تشبه بدايات جديدة ومن مصلى صغير إلى مسجد الملك فيصل المهيب الذي يحمل اسم ملك أحب باكستان وأحبته تشعر بأن الروح وجدت مرساها على ضفاف البحيرات وفي الأسواق الليلية ترى مزيجا رائقا من التنظيم والدفء نظام يستقبل إنسانيتك ودفء يحفظ مكانك media 2615524 أهل البلد ضيافة تتقن لغات القلوبلا تحتاج إلى قاموس كي تفهم باكستانيا يقول لك وهو يمد لك كوب الشاي خوش آمدید الضيافة هنا مهمان نوازی ليست عادة اجتماعية فحسب إنها فلسفة عيش يفرحون بالضيف كما يفرح الربيع بمطر موعود ويتقبلون الآخر بلا تكلف كأن التنوع جزء من تكوينهم في المدارس والجامعات والمقاهي وفي الأسواق والحدائق يدهشك هذا المزاج الاجتماعي الذي يجمع بين الوقار واللطافة بين المحافظة والانفتاح بين الفخر بالتقاليد والقدرة على الإصغاء للجديد مدن تتكامل تاريخ يعمل للمستقبلثمة باكستان أخرى تكتشفها كلما اتسعت الرحلة لاهور بحدائقها ومساجدها وتاريخها الثقافي الذي لا يكل كراتشي بدفء بحرها وإيقاعها الاقتصادي الصاخب بيشاور بأبوابها على التاريخ كويته بصلابة الجبال وسوات جلجت وهنزة بديعات الطبيعة التي تبدو كأنها خرجت للتو من مرسم خالق كريم هذا التنوع الجغرافي والثقافي لا ينقض وحدة البلاد بل يمنحها أسباب القوة شعب واحد يتكلم بلهجات جمال متعددة media 2615526 من إقبال إلى فيض الشعر كراية هويةأفكر وأنا أتعرف إلى باكستان من داخلها كيف استطاع شاعر واحد أن يصبح مرآة أمة محمد إقبال لم يكن شاعرا فحسب كان بوصلة كرامة وثقة بالذات خودي ونداء مستمر إلى النهوض في قصائده يعلمك الصقر أن لا يرضى بالدون وأن يعلو بجناحيه حيث تتسع الرؤية وبعده يأتي فيض أحمد فيض ليضع على الوجع قميص أمل ويحول اللغة إلى عزاء جميل وإصرار نبيل ومن ثم نساء الشعر كپروين شاكر يسكبن على المدينة عطر البنفسج وكبرياء الرقة أدركت هنا أن الشعر ليس زينة الكلام بل ذاكرة الأمة ووجدانها وأن الثقافة الباكستانية من حكم بوله شاه إلى أنغام القوالي تحرس الروح فيما العالم يشتد مادة وخفة media 2615527 العمل بصمت والتنمية بلا ضجيجيقال إن التنمية تقاس بالأرقام في باكستان رأيت وجها آخر لها تقاس أيضا بسلوك الناس النظافة في الحدائق العامة احترام الصف عزم الطلاب في الجامعات ابتكار الشباب في المشروعات الصغيرة وحرص الأسر على التعليم بوصفه حبل النجاة إلى الغد لمست تقدما هادئا وعمليا تحديثا للبنية تحسينا للخدمات ورغبة صادقة في أن تكون الدولة بحجم طموح شعبها هنا لا يصنع الإعلام الصورة وحده بل يصنعها الناس في تفاصيل أيامهم الأخوة السعودية الباكستانية جسر أقدم من الأخبارالعلاقات بين السعودية وباكستان ليست خبرا موسميا إنها سيرة طويلة من المودة والتكافل ملايين الباكستانيين تركوا بصماتهم في نهضة المملكة وتعلم منا جيل كامل معنى السند حين يكون الجار أخا وفي الحج والعمرة تذوب الفواصل يتجاور الحاج الباكستاني مع الحاج السعودي في صف واحد وتصبح اللغات كلها لهجة تكبير هذا الرصيد الإنساني ليس للذكرى فقط إنه دعوة إلى توسيع الشراكات في التعليم والاقتصاد والثقافة والبحث العلمي وبناء مشاريع تجعل من شباب البلدين فريقا واحدا في سباق المستقبل تحية إجلال للشعب والدولة والجيشليس من الإنصاف أن نتحدث عن باكستان ولا نذكر صلابة من يحرسون أمنها ويقفون في الصفوف الأولى عند الكوارث لقد رأيت صورا ووقائع لجنود وضباط يرفعون أثقال الواجب بصمت وإقدام يشاركون في إغاثة المنكوبين ويعيدون للجبال والأنهار طمأنينتها بعد الفيضانات ويتركون في القرى البعيدة أثرا من الانضباط والرحمة تحية تقدير للشعب الذي يقف وراءهم وللحكومة التي تعمل على توازن صعب بين متطلبات الأمن والتنمية وللجيش الباكستاني العظيم الذي يختزل في بزته العسكرية كبرياء وطن وحلم أمة خاتمة ما بين مطر وشاهي ودعاءباكستان التي رأيتها ليست عنوانا في نشرة أخبار بل رائحة مطر على طريق أخضر وكوب شاهي بالهيل يوزعه صاحب متجر صغير كأنه يوزع من قلبه وابتسامة أطفال يذهبون إلى مدارسهم حاملين حقائب أخف من أحلامهم بقليل هي بلد يتعلم من أوجاعه ويحول صلابته إلى مرونة وتدينه إلى أخلاق وتعدده إلى أنغام متناسقة أكتب هذا وأنا سعودي وجد بيته الثاني هنا لا مجاملة ولا ادعاء بل وفاء لمعنى الأخوة حين تتجاوز السياسة إلى جوهر الإنسان شكري لكل يد باكستانية صافحتني منذ عام لكل معلم وطالب وزميل ومسؤول فتح لي بابا أو قدم لي نصيحة شكري لهذه البلاد التي تذكرنا نحن أبناء الصحراء بأن الخضرة قد تكون خلقا قبل أن تكون مشهدا إنني أراهن على تعليم أمتن وتبادل ثقافي أوسع وعلى مشاريع مشتركة تجعل من الذكاء الاصطناعي والابتكار الزراعي والطاقة النظيفة وعلوم المياه ساحات تعاون حقيقية ولعلنا نحن الذين نكتب اليوم نترك لأبنائنا جملة بسيطة يفتخرون بها غدا كنا جيلا بنى صداقة تشبه الجسر متينا مفتوحا وآمنا للعبور في الاتجاهين
ارسال الخبر الى: