كأن طبيعيا أن تستأثر الانتخابات الرئاسية الأميركية بالأضواء كلها وأن يحوز هذا الحدث الذي يخاطب مختلف الدول جل الاهتمامات وأن يطغى في الوقت ذاته على غيره من وقائع موازية كانت تجري في الصعد الإقليمية والدولية كلها الأمر الذي حجب تطورات أخرى مهمة في مسرح خافت الضوء أي في رواق محكمة الجنايات الدولية التي كانت تشهد منذ عدة أشهر هجوما كاسحا ضد مدعيها العام كريم خان بغرض ثنيه عن طلب إصدار مذكرة توقيف بحق بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكاب قواته جرائم حرب موثقة بالصوت والأدلة والصور ومقارفته جريمة ضد الإنسانية في قطاع غزة ومع أن الانتخابات الأميركية التي شغلت الدنيا صارت من الماضي إلا أن التساؤل عما يجري في لاهاي حيث مقر الجنائية الدولية ظل نافلا حتى الساعة ولا متسع له في الأجندة ولا سيما بعد انثيال التوقعات المثيرة لأسوأ الانطباعات المتعلقة بالأسماء الاستفزازية في فريق الرئيس المنتخب فوق أن مضاعفات حرب الإبادة الجماعية في غزة والحرب الطاحنة على لبنان لا تزال في طليعة الاهتمام تتصدر المشهد العام وتتقدم ما عداها من عناوين وموضوعات وهو ما يزيد من درجة الحرج في مسألة جذب الاهتمام نحو هوامش الكلام غير أن ما جرى ولا يزال خلف أبواب محكمة الجنايات الدولية أمر لا ينفصل ألبتة عن مجريات الحرب في الشرق الأوسط ولا سيما الحرب على غزة الأمر الذي يدعو بإلحاح إلى إعادة تركيز الضوء وإثارة الحد الأدنى من الاهتمام بما يمكن تسميته من دون مبالغة انقلابا دراماتيكيا على خشبة هذه المحكمة بدأت مقدماته المبكرة غداة إصدار مذكرة توقيف نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت في مايو أيار الماضي ثم تصاعدت حدة الهجمة المنسقة بعد ذلك طوال الأشهر الستة الماضية بما في ذلك استقالة إحدى القاضيات لأسباب ملفقة إطالة أمد المراوغة إلى أن بلغ السيل زباه في الأسابيع الماضية إذ باتت المحكمة بقضها وقضيضها وقضاتها ومدعيها العام في مهب رياح سموم عاتية بكلام آخر تمكنت الضغوط الأميركية والمناورات الغربية ناهيك عن التدخلات الإسرائيلية الفظة في السر والعلن التي جرت بلا خجل من فتح باب قفص الاتهام مواربا وتهريب المتهم الأشر من محبسه القانوني مكللا بالعار والشنار ونقله بين يوم وليلة ليلاء ليس إلى مقعد خلفي في ردهة القاعة المغلقة أمام الإعلام وإنما إلى منصة التقاضي السامية وإلباسه روب العدالة فيما وضع القاضي في القفص ذاته وتجريمه أمام الملأ بتهمة مشينة في مشهد سوريالي مثير للسخرية السوداء ولا سابق له أبدا في تاريخ المحاكمات الجنائية المحلية منها والدولية ولم يحدث مثيل له إلا في قضاء الأنظمة الانقلابية لسنا في معرض الدفاع عن المتهم بالتحرش الجنسي وليس من حق الصحافة الخوض في غمار قضايا منظورة أمام القضاء إلا أن مسخ المحكمة الجنائية الدولية على هذا النحو المهين مفهوم العدالة أمر يستحق الاحتجاج وإثارة أوسع قدر من النقاش العام ليس في مدى أحقية التهمة المنسوبة إلى المدعي العام أحسب أنها ملفقة وموظفة وإنما حيال مستقبل العدالة الدولية ذاتها في عصر أخذت تنهار فيه القيم والفضائل وتتداعى في فضائه المثل والمبادئ ويعلو فيه قانون القوة قوة القانون ويتقوض في رحابه القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة وتتآكل في خضمه فعالية مجلس الأمن الدولي ومنظمات حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات نفسها وغيرها من الوكالات والمؤسسات الأممية المغلوبة على أمرها الآن في المحصلة غير النهائية لهذه الارتدادات الزلزالية المتوالية تحت قوس محكمة الجنايات الدولية جراء جملة طويلة من الاستهدافات المنهجية في طليعتها دفاع جو بايدن المستميت عن مجرم الحرب نتنياهو تتجلى أمام أبصارنا حقيقية أن القانون الدولي هو في واقع الأمر قانون المنتصرين في الحرب الكونية الثانية إن لم نقل إنه قانون المستعمرين البيض لا يسري إلا على دول العالم الثالث ولا تنطبق أحكامه إلا على الضعفاء الأمر الذي يجوز معه القول لا تحدثونا أيها السادة بعد اليوم عن مبادئ العدالة وحقوق الإنسان فنحن لن نشتري منكم مثل هذه البضاعة المغشوشة من الآن فصاعدا ولا سيما إذا فاز حليفكم مجرم الحرب نتنياهو بهذه الجولة وأرغم كريم خان على الاستقالة