حين نتورط بالموت
في بلاد الحروب المشحونة بالتغييب والغياب، في بلاد الإقصاء وكره تعدد الألوان وشيطنة الأغاني، يبدو الحزن ورطة قسرية، ورطة قاسية ومجحفة، لكننا نلجأ إليها، نلتف بها معطفاً يدفئ برودة أوصالٍ جمدها انطفاء دفء المودة. نتمسك بالحزن نغمةً شجية خافتة مسرفة في الغصات، لنهدهد أرواحنا التي تتيبس فقدًا إثر فقد، وشتيمةً إثر شتيمة، وتهمةً تلي اتهاماً عنيفًا ومخيبًا لرجاء التلاقي. نعاتب أنفسنا كحزانى كي نتوقف عن الانغماس أعمق في ورطة الحزن، ونتجاهل الدعوات الصادقة للجم هذا الرعب القادم على أجنحة الخيبة.
لكننا نتورط بالموت رغماً عنا، لأنه واقع علينا، يتسلط على حزننا، على أغانينا المقهورة، وعلى ترانيم الوداع وأهازيج وزغاريد النحيب. تسرق الخطابات الاستعراضية الفائضة بالخطابة الصلفة والصور الباهتة المكررة عن الانتصارات أغانينا، وألوان ألبستنا المزركشة بوعود الحب والاحتفالات، وهبوب أغصان الشجر، والذاكرة كلها، ذاكرة الحجر والبشر والرماد. أما الانتصارات الأحادية المتحولة فورًا إلى هلامٍ من الكلمات المقفاة بأحرفٍ مشحونةٍ بصدى الريح في مدخنةٍ مهجورة، فهي موتٌ متجدد، أو على الأقل وعدٌ بموتٍ مبين.
من أين يجيء كل هذا الموت ونحن لا نريده؟ من يفلته علينا نهراً جارفاً ووداعاً بلا جثامين، وجنازاتٍ بلا أغاني رثاء، ولا صورٍ يضحك فيها الضحايا قبل موتهم بقليل؟ لم يعد المشهد العام مجرد استعراضٍ للقوة، بل مبارزة قسرية مع الموتى اللاحقين، وهم يخبئون رؤوسهم فقط كي لا يصدقوا موتهم.
تغرق سورية منذ أشهر بالنساء المتشحات بالسواد، وبرجالٍ يبدلون البدلات الرسمية وربطات العنق عدة مراتٍ في النهار. تغرق البلاد في السواد وفي سؤال الغياب: هل سيعودون؟ متى، وكيف؟ يسرق أحدهم محفظة رجلٍ فيناشده الأخير أن يعيد بطاقة التسوية لأن بين حروفها تكمن حياته، وربما موته. تسأل امرأة أُحرق بيتها عن صور أبنائها القتلى التي خبأتها تحت وسادتها. وفي مضافات التشييع، تلوح الصور بامتدادٍ متلاطمٍ كموج بحرٍ هائج، من هول خيانة الملح لدموع الأمهات.
يشبه موتنا اليومي موت الحكايات: حروف ناقصة لكلماتٍ تفقد معناها لأنها لم تكتمل، حكايات عن أشخاصٍ بلا أسماء. طلبوا منهم رمي أسمائهم على قارعة
ارسال الخبر الى: