سجلت المخرجة الهندية بايال كاباديا اسمها بحروف بارزة في تاريخ مهرجان كان وتاريخ السينما الهندية بعد فوز أول روائي طويل لها كل ما نتخيله كضوء بالجائزة الكبرى لمسابقة الدورة الـ77 14 ـ 25 مايو أيار 2024 باختيار فيلمها في المسابقة عادت الهند بعد غياب ثلاثة عقود إنه أول فيلم هندي لمخرجة في المسابقة تلك وكاباديا أول مخرجة هندية تشارك فيها بخلاف هذا جعلها الفوز أول هندية تنال جائزة كبرى وإحدى المخرجات القلائل اللواتي فزن بها في تاريخ المهرجان نجاحها في نيل جائزة كبرى في مسابقة حاشدة بأفلام أساتذة في الإخراج وآخرين لهم تاريخهم السينمائي بأول روائي لم يكن مفاجئا أو مستغربا بل متوقع بعد عرض الفيلم نظرا إلى مستواه الفني وموضوعه والأداء التمثيلي وموهبة مخرجته وذكائها وحساسيتها في تناول موضوعها بشكل مرهف لفتت كاباديا الأنظار إليها بآخر وثائقي طويل لها ليلة الجهل بكل شيء الفائز بجائزة العين الذهبية لأفضل وثائقي في تظاهرة نصف شهر السينمائيين قبل ثلاثة أعوام فيلم شجاع وجريء ومتحد يقتحم مناطق سياسية شائكة ويوجه إدانات لقمع السلطات الهندية وتنكيلها وقتلها طلابا جامعيين ويفضح ممارسات كهذه من دون مواربة فيه طرح لهم سياسي واجتماعي وثقافي عبر مزج المتخيل بالواقعي طوال مدته تسمع فتاة تقرأ رسائل طالبة في معهد السينما كتبتها إلى حبيبها تبث فيها غرامها وتسرد له وقائع وأهوال ما جرى مع لقطات أرشيفية كثيرة للأحداث القمعية المشينة كما برزت مهارة المخرجة في سرد موضوعها بإقناع وفنية وتمكنها من استخدام أدواتها بحرفية ملحوظة في كل ما نتخيله كضوء لم تبتعد كاباديا كثيرا عن فيلمها السابق فنيا وفكريا وأسلوبا التزام مناقشة الحرية والقمع والمسكوت عنه سياسيا واجتماعيا ودينيا مفضلة في الروائي إعطاء مساحة لمن ترى أن لا صوت لهم في بلدها ومجتمعها لذا اختارت ثلاث نساء تحديدا من أعمار وبيئات وسلوكيات مختلفة وبالمهارة نفسها والمزج الفني البارع والطرح السياسي والاجتماعي والإنساني والحسي والديني الجريء ضد سياسات وتصرفات وأوضاع بلد وحكومة وقوانين وسلوكيات بشر نسجت بهدوء وإقناع وفنية أحداث جديدها هذا للنفس الوثائقي حضور لافت في مشاهد منه لكنه يتجلى بقوة في لقطات استعراضية طويلة للشوارع الكئيبة في مومباي والتعليقات الصوتية المصاحبة في افتتاحه تستمر اللقطات دقائق تسمع فيها تعليقات صوتية لأفراد يروون في جمل مقتضبة تجربتهم مع المدينة يوجد عمل ومال في مومباي الأفضل أن تعتاد المدينة لتستطيع المواصلة المدينة تسلبك وقتك وحياتك وجمل أخرى متدفقة يقولها عمال نازحون من قراهم الفقيرة بحثا عن لقمة العيش في أسواق وشوارع إحدى أكبر مدن الهند ضخامة واكتظاظا وكآبة وقسوة افتتاح غامض ومشوق كأنه تمهيد يجهز أجواء فيلم يسوده الكبت وانعدام المساواة والظلم الاجتماعي والاقتصادي والحرمان النفسي والعاطفي والجنسي والأمان عامة كما يوحي بأن الشخصيات الروائية لا تختلف عن تلك الأصوات ضحايا المدينة مجهولي الأسماء والوجوه انطلاقا منه وبعد لقطات قليلة ذات أثر شبه وثائقي تعرف بالشخصيات والأجواء يمضي الفيلم بانسيابية في سرد أحداث واقعية واجتماعية ورومانسية حزينة تختتم في النهاية بجماليات صورة ومواقع وأداء مناقضة تماما للمقدمة والوسط تدريجيا يعرف بالنساء الثلاث اللواتي يعملن في مستشفى هندي بائس في أحد أحياء مومباي يمارسن حياتهن المهنية ويقمن بروتين يومي عادي برابها كاني كوسروتي ممرضة خبيرة وكتومة وصارمة ومحافظة وآنو ديفيا برابها الأصغر سنا ممرضة استقبال منفتحة وجسورة ومقبلة على الحياة تعيشان معا في منزل واحد وفي حياتهما العملية اليومية تتحدثان عن المناظير المهبلية ووسائل منع الحمل المختلفة وكل ما يتعلق بصحة المرأة والإنجاب لكن في حياتهما الخاصة هناك التزام وانضباط وأسرار تتحمل برابها الكثير وتبقي عذاباتها مخفية بعد زواجها تقليديا يسافر زوجها إلى ألمانيا للعمل لا يتصل بها لعام ولا يتواصل معها عندما تتصل به تحت ضغط أحداث وتطورات تكتشف أن هاتفه لا يعمل ذات يوم يرسل إليها جهاز طبخ أرز باهظ الثمن في الوقت نفسه يتقرب منها مانوج عزيز نيدومانجاد طبيب رومانسي مهذب يكتب الشعر ويحاول تعلم اللغة الهندية رغم صعوبتها عليه تحاول مجاراته وتقبل دفتر أشعاره وتعلمه بعض الهندية لكنها في النهاية وبعد عذابات وبدافع صرامتها وجديتها تخبره أنها متزوجة وأن الأمر صعب للغاية بالنسبة إليها آنو تتحدى القواعد والمجتمع والعادات والتقاليد والدين بمواعدتها شابا مسلما يدعى شياز هريدهو هارون قصة حب صادق مليئة بمشاكل ومخاطر عليهما إنها هندوسية وهو مسلم ما يعقد الأمور أكثر ليست محاولاتهما إخفاء علاقتهما خشية المجتمع والأهل والدين فقط بل رغبتهما في لقاء جسدي يصعب تحقيقه ويجهض في كل مرة ما عدا قبلات عابرة مختلسة هنا وهناك أثناء ذلك يتم التقرب من زميلتهما الطاهية بارفاتي تشايا كادام أرملة خمسينية تجد نفسها بعد أكثر من عقدين تحارب الإخلاء القسري التعسفي من مسكنها العشوائي غير الآدمي المقرر هدمه لإقامة أبراج سكنية فارهة بعد إخفاقها في إثبات ملكيتها وضيق المدينة بها بعد إفناء شبابها فيها تقرر ترك المدينة نهائيا والعودة ثانية إلى قريتها الشاطئية في ولاية كيرالا تدعو برابها وآنو إليها لتمضية وقت معها تذهب الممرضتان في رحلة برية إلى بلدتها الساحرة حيث تصبح الغابة الغامضة مساحة لتحقيق بسيط لأحلام وتخيلات ورغبات في هذا الجزء يحدث انفتاح على الطبيعة ويتجلى سطوع الألوان ويلمس مدى حيويتها وتأثيرها عليهن وعلى تصرفاتهن التي تبرزها الحركة النشطة للكاميرا كما اتساع زوايا التصوير على الأفق الرحب وغلبة اللقطات النهارية الخارجية والألوان الطبيعية والأشجار والبحر والرمال والهواء هذا كله في مقابل الابتعاد عن المونتاج الصارم والانتقالات التقليدية والإضاءة القاتمة والشوارع والطرقات والبيوت المقبضة مع غلبة التصوير الداخلي بين الجدران خاصة في النصف الأول من الفيلم في كل ما نتخيله كضوء نجحت كاباديا في مزج الأنثوي بالإنساني في إطار اجتماعي وسياسي وديني مغلف برومانسية مفتقدة وحسية منشودة في خليط بالغ الرهافة والحساسية والحزن والصدق من دون أي افتعال برقة نسجت حبكة هادئة وإيقاعا متمهلا يصل إلى حد البطء أحيانا من دون ميلودرامية كاشفة بعمق عن نماذج لنساء هنديات متباينات يكابدن مشاق حياة ومجتمع وقوانين وصعوباتها وتناقضاتها إلى صراعات داخلية متراكمة تعكس حتما مشاكل مجتمع ضاغط وسلطة قاهرة وبلد منقسم على نفسه لغويا ودينيا وطائفيا وطبقيا وعرقيا