كلا لن أرحل هكذا كان رد رئيس الاحتياط الفيدرالي الأميركي البنك المركزي الأميركي جيروم باول على سؤال أحد الصحافيين بشأن احتمال طلب الرئيس دونالد ترامب منه ترك منصبه الصراع بين ترامب وباول يعكس التوتر التقليدي بين الساسة والبنك المركزي وهو صراع يحمل تداعيات مهمة على الاقتصادين الأميركي والعالمي منذ بداية ولايته الأولى 2017 2021 لم يكن ترامب متساهلا مع باول ويبدو أن الحال لم تتغير في ولايته الحالية أيضا ففي العام 2019 غرد قائلا من هو عدونا الأكبر جيروم باول أم الرئيس الصيني وفي 25 أكتوبر تشرين الأول 2024 قال إنه يفهم السياسة النقدية بشكل أفضل من جيروم باول ويتوقع أن يكون له رأي في أسعار الفائدة حتى لو لم يتمكن بوصفه رئيسا من إخبار البنك المركزي بما يجب عليه فعله أما باول فلا يعير اهتماما كبيرا لانتقادات ترامب وتصريحاته مشيرا إلى أنه لن يهتم بوعود الرئيس المنتخب ويتخذ قرارات بناء على افتراضات ولن يعتبر وعوده في صياغة سياسته إلا إذا تحولت إلى قوانين فعلية وذكر الجميع أن الفيدرالي مؤسسة تتبع نموذجا اقتصاديا يجنب السوق التأثر المباشر بالتكهنات السياسية ولا بد من التذكير أيضا أن باول سيبقى في منصبه حتى نهاية ولايته في مايو أيار 2026 وأنه سيكون علينا متابعة الصراع الدرامي بين أبرز شخصين في صياغة السياسات المالية والنقدية ليس في أمريكا وحسب بل في العالم أجمع فالاحتياطي الفيدرالي يعد حجر الزاوية في استقرار النظام المالي العالمي الضغوط السياسية على السياسة النقدية رؤساء البنوك المركزية بما في ذلك الاحتياط الفيدرالي يسعون لتجنب تلقي الأوامر من القيادة السياسية ويعملون على اتخاذ قرارات مدروسة بعيدة عن الضغوط الانتخابية والحزبية وفي الوقت الذي تتناوب الأحزاب الكبرى على رئاسة البلاد برؤى وتوجهات اقتصادية مختلفة ينظر رئيس البنك المركزي إلى منصبه باعتباره مكملا لمن سبقه وممهدا لمن سيأتي بعده ساعيا لتحقيق أهداف ثلاثة استقرار الأسعار التشغيل الكامل واستقرار النظام المالي ومع ذلك فإن تدخلات السلطات السياسية دائما ما تمثل تهديدا لهذه الأهداف ما يضع البنك المركزي أمام تحد كبير للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي في مواجهة الضغوط السياسية ترامب بخلفيته في المال والأعمال ينظر إلى الاقتصاد والعلاقات الدولية من منظور الربح والخسارة لا يحب الدفع من دون مقابل ولا أن يرى ميزان التجارة لبلده خاسرا مع أي بلد آخر يميل إلى قيادة اقتصاد قائم على النمو السريع وخفض البطالة ويفضل سياسات اقتصادية حمائية تعيد الإنتاج إلى الأراضي الأميركية وتحفز الشركات الناشئة تتعارض رؤيته مع السياسة النقدية المتشددة وأسعار الفائدة المرتفعة التي يتبناها الاحتياط الفيدرالي في الوقت الحالي وهو ما يدفعه إلى السعي للضغط على الفيدرالي لتبني سياسات تدعم أهدافه قصيرة المدى حتى وإن كان ذلك على حساب الاستقرار طويل المدى صراع ترامب مع جيروم باول يعيد إلى الأذهان العلاقات المعقدة بين الرؤساء الأميركيين ورؤساء الاحتياط الفيدرالي فيما مضى ففي الستينيات شهدت العلاقة بين الرئيس ليندون جونسون ورئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي ويليام مارتن توترا كبيرا جونسون كان يسعى لتمويل برامج المجتمع العظيم وزيادة الإنفاق على حرب فيتنام من دون زيادة الضرائب بينما كان مارتن قلقا بشأن التضخم ودعا إلى سياسات نقدية أكثر تشددا بما في ذلك رفع أسعار الفائدة لمواجهة هذه الضغوط التضخمية وفي الثمانينيات عندما تولى رونالد ريغان الرئاسة كان الاقتصاد الأميركي يعاني من التضخم المفرط فاتخذ بول فولكر رئيس الاحتياط الفيدرالي آنذاك إجراءات صارمة لرفع أسعار الفائدة بهدف مكافحة التضخم ما أدى إلى ركود اقتصادي قصير الأمد ولكنه ضروري لاستعادة الاستقرار الاقتصادي أما في فترة الرئيس ريتشارد نيكسون فقد سعى إلى تعزيز الاقتصاد الأميركي قبل انتخابات 1972 ما دفعه إلى ممارسة ضغوط على رئيس الاحتياط الفيدرالي آرثر بيرنز لتبني سياسات نقدية توسعية من خلال خفض أسعار الفائدة وزيادة المعروض النقدي بهدف تحفيز النمو الاقتصادي وتقليل البطالة على الرغم من ارتفاع معدلات التضخم في ذلك الوقت مستقبل الدولار بصفته عملة احتياطية لو كانت الأزمة مقتصرة على الاقتصاد الأميركي فقط لكان التعامل معها أقل تعقيدا لكن الحديث هنا يتعلق بورقة الدولار والاقتصاد الأميركي اللذين يمثلان الركيزة الأساسية للنظام المالي العالمي والعمود الفقري للاقتصاد الدولي أي صراع أو اضطراب على هذا المستوى قد يفضي إلى تحولات في هيكل النظام الاقتصادي العالمي كما حدث في عام 1971 عندما أعلن الرئيس نيكسون عن قرار فك ارتباط الدولار بالذهب وتعويم قيمته في الأسواق في حال استجاب الاحتياط الفيدرالي لضغوط الرئيس ترامب لتجنب أي تباطؤ في النمو الاقتصادي وامتنع عن اتخاذ قرارات ضرورية لكنها غير شعبية على المدى البعيد فقد يؤدي ذلك إلى تفاقم معدلات التضخم بشكل متسارع مثل هذا السيناريو سيضع عبئا ثقيلا على الاقتصاد الأميركي حيث ستتراجع القوة الشرائية للأسر الأميركية وتصبح السلع والخدمات داخل الولايات المتحدة أكثر تكلفة ما يضعف القدرة التنافسية للصادرات الأميركية على المستوى العالمي كما أن تآكل الثقة الدولية بالدولار بصفته عملة وملاذا آمنين ستكون له تداعيات جسيمة إذ تعتمد العديد من الدول على استقرار الدولار لتسعير احتياطياتها وتنفيذ صفقاتها التجارية قد يدفع ذلك الاقتصادات العالمية إلى البحث عن بدائل للدولار مثل اليورو أو اليوان الصيني وتبني آليات تجارية تعتمد على تلك العملات هذا التحول سيقوض هيمنة الدولار على النظام المالي الدولي ويضعف مكانة الولايات المتحدة الاقتصادية إلى جانب ذلك فإن تزايد العجز في الميزانية العامة سيقلل من إقبال المستثمرين الأجانب على الأصول الأميركية ما سيجعل تمويل العجز وتكاليف الاقتراض أكثر صعوبة ويفاقم من أزمة الدين العام التي تجاوزت 33 تريليون دولار مثل هذه التطورات ستجعل الاقتصاد الأميركي أكثر عرضة للصدمات الاقتصادية وتحديات التمويل التأثير لن يتوقف عند حدود الاقتصاد الأميركي بل سيمتد إلى النظام المالي العالمي بأسره ذلك أن العديد من الاقتصادات النامية تعتمد بشكل أساسي على الدولار الذي يمثل ما يقرب من 60 من احتياطيات البنوك المركزية عالميا ويعد العملة الرئيسية في تسعير واستيراد السلع الأساسية مثل النفط والغاز والمعادن الثمينة يستخدم الدولار في أكثر من 50 من فواتير التجارة الدولية وتشكل 50 من الديون العالمية التي تبلغ نحو 315 تريليون دولار ديونا مقومة بالدولار في حال فقد الدولار مكانته عملة احتياط رئيسية فقد تفتح الأبواب أمام إعادة تشكيل نظام مالي عالمي جديد مع تداعيات بعيدة المدى على الاقتصاد الدولي التوتر بين ترامب وباول قد يثير قلق المستثمرين حول العالم الباحثين عن استقرار السياسة النقدية لضمان اتخاذ قرارات استثمارية مستدامة فأي مؤشر على تدخل سياسي قد يؤدي إلى تقلبات في أسعار الأسهم والسندات والعملات والسلع والمعادن ستجعل أميركا بلدا طاردا للاستثمارات وتسبب هروب رؤوس الأموال إلى بلدان أخرى ما يعيق قدرة الاقتصاد الأميركي والعالمي على النمو المستدام أخيرا ربما يبدو الحديث عن الخلاف بين ترامب وباول أمرا سهلا لكن التداعيات ستكون صعبة على الاقتصاد الأميركي والعالمي بأسره ولا أجد أن المؤسسات والجامعات والشركات الكبرى والأثرياء سيقبلون بالمساس بهيبة الاقتصاد الأميركي وتدخلات ترامب في عمل الفيدرالي وتطبيق ما يراه ضروريا فالولايات المتحدة ليست مجرد شركة يديرها ترامب ويتسبب بإفلاسها وانهيارها بل دولة تقوم مؤسساتها على استقلالية متجذرة