مقاومة اليأس في قلب المأساة
ما الذي يمكن أن تفعله الثقافة أمام مآسي العالم المعاصر؟
ثمة ثقافتان لا جامع بينهما: ثقافة الحياة وثقافة الموت، مثلما هناك لغتان: لغة الزيف والتزوير من جهة، ولغة المعنى، من جهة أُخرى. الثقافة الحيّة ليست مجرّد كلمات ومواقف منفصلة عن الواقع. بل هي قوّة تستطيع أن تخلق إمكانيات جديدة، وتساعد على مقاومة اليأس حتى في قلب المأساة - اليأس العامّ الذي يسعى إلى فَرضه قتَلةُ الجسد والروح - ليبقى أُفق المُمكن وارداً ومفتوحاً. الثقافة، في هذا السياق، تعبّر عن تعدّدية العالم وتشابكاته، وعن رؤيةٍ قوامها الانفتاح على الآخر، وتعزيز القواسم المشتركة، وإرساء الحوار، وبناء العلاقات بدل الانغلاق في الهويّات الضيقة. وهي ليست موقفاً نظريّاً بقدر ما هي صرخة تحثُّ على المشاركة في بناء عالم أكثر عدلاً وإنسانية. لذلك، فالثقافة لا يمكنها التزام الصمت، بل تمنح صوتاً للّذين يعانون، وتجعل معاناتهم جزءاً من الوعي الإنساني.
ثقافة الحياة تقف ضدّ خطاب الكراهية، أمّا ثقافة الموت فتأتي من جهة ثانية مختلفة تماماً، من المنطقة الأكثر سواداً في النفس البشريّة، ولا تملك لغةً أُخرى سوى العنف. الحلول العنيفة تؤدّي إلى مزيد من العنف. والذين يظنّون أنهم آلهة، وفي أيديهم قرار الحياة والموت، يأخذون العالم – بمساندة القطعان التي تؤيّدهم - إلى حتفه. الحتف، هنا، ليس الفناء الكامل بالضرورة، بل ما هو أبشع وأعنف من ذلك: الموت قبل الموت. الموت ونحن داخل الحياة نفسها، بالاستسلام، والتلبُّد، ورؤية الإبادات والمجازر كأنها أفلام كرتون، نلمحها ونتابع حياتنا اليومية، كما لو أننا بمعزل عن الخطر.
ما يجري اليوم في غزّة، يكشف هشاشة العالم ودخوله في واحدة من متاهاته المرعبة. بعد كلّ حرب ومجزرة، نسمع دائماً العبارة التالية: أبداً، بعد اليوم، ليتبدّى لنا أنّ هذه العبارة مجرّد كلام باطل، إذ لا يصمد معناها أمام الحسابات والأنانيات والمصالح، رغم تزايد التحديات التي تواجه البشرية جمعاء.
غزّة اليوم هي الساحة الكبرى التي تختزل قضايا عصرنا. ما جرى ويجري فيها يطرح علامة استفهام كبيرة على مصير عالمنا الراهن. بعدها لن يكون المصير،
ارسال الخبر الى: