حقوق الإنسان عندنا وعندهم
من السهل أن نرفع شعارات كبرى مثل الكرامة والحرية والحق في الحياة، ونتحدّث عنها كما لو كانت اكتشافاً حديثاً سجّله الغرب باسمه في سجلّ التاريخ، متناسياً أن تلك القيم لم تولد في قاعات الأمم المتحدة، بل في أعماق الوعي الإنساني منذ بدأ المرء يدرك أن لغيره قلباً يشبه قلبه، ووجعاً لا يقلّ عن وجعه. فكرة حقوق الإنسان ليست اختراعاً غربياً بالمعنى الحصري، بل هي صياغة غربية لمجموعة مبادئ كانت (وما زالت) موجودةً في ثقافاتٍ أخرى، ولكن بأسماءَ وملامحَ مختلفةٍ، وبروحٍ نابعةٍ من بيئتها الخاصة.
حين وضع الغرب معاييره لما تُسمّى اليوم حقوق الإنسان، كان يفعل ذلك من منطلقه الفكري ومنظومته الأخلاقية، ومن داخل تجربته الطويلة مع الصراع الديني والسياسي والاجتماعي. كانت تلك المعايير استجابةً لمآسيه، لا لتاريخ البشرية كلّها. ولذا، تبدو مثاليةً في بعض جوانبها، لكنّها ليست بريئةً من الذاتية، ولا خاليةً من المركزية الثقافية التي تُخفي داخل بريقها نظرةً متعاليةً للآخرين، كأنها تقول لهم: كونوا مثلنا كي تكونوا أحرارا.
غير أن الحرية ليست قالباً جاهزاً، ولا الكرامة سلعةً قابلةً للتصدير. ما يليق بالإنسان في باريس قد لا يليق بالإنسان في مكّة، وما يُعدُّ احتراماً للفرد في نيويورك قد يُعدُّ تفكّكاً للأسرة في القاهرة. نحن لسنا نُدافع عن الاختلاف من باب الخصوصية الضيّقة، بل من باب الفهم العميق لتنوّع التجارب الإنسانية واختلاف مساراتها في البحث عن المعنى. فلكلّ أمّةٍ طريقها الخاص إلى العدالة، ولكل ثقافةٍ إيقاعها المختلف في التعبير عن الرحمة، ولكل ضميرٍ لغته التي يتحدّث بها حين يقول: كفى ظلماً.
ليس من الإنصاف أن نُسلّم للغرب تفويضاً أخلاقياً يُحدّد به ما هو إنساني وما هو غير ذلك، فالمعايير التي صاغها (مهما بلغت من الرقي النظري) ليست خاليةً من التحيّز، وقد وُضعت بما يتناسب مع تجربته الدينية التي فصلت الكنيسة عن الدولة، ومع فلسفته التي جعلت الفرد مركز الكون، ومع تاريخه الذي عرف الاستعمار باسم التمدّن. أمّا نحن، فحين نتحدّث عن الإنسان، فإننا نراه كائناً في شبكة من القيم، مسؤولاً
ارسال الخبر الى: