ننشر على حلقات رواية حدائق العاشق للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر أيلول 2021 وكان من طليعة كتاب القسم الثقافي في العربي الجديد وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي ولأنه عندما يغمغم بكلمات الحب ستهجره وحوش البرية التي تشاركه حياته في التلال من ملحمة جلجامش هدأت أصوات المحررين وآلات الطباعة في منتصف الظهيرة هدأت أصوات وكالات الأنباء وخلت الردهات والمكاتب من هسهسة الورق وحفيف الفساتين النسائية صوت الفاختة البعيد يقطع السكون يذرذره مبحوحا بندائه الغامض يرتفع وينخفض على أمواج الهواء يا جوختي وين أختي مياه تتغلغل بين البساتين ظلال وعول تهبط بين المرتفعات وين تنام بباب الله على حافة أرض خضراء حقول ذهبية على أطراف غابة قنوات المياه الفينيسية تعبرها الزوارق الخالية يرتفع نشيد كنائسي في أقصى السكون يسيل متذبذبا في الهواء الناعم صوت المؤذن لا إله إلا الله لا إله إلا الله فتطير الحمامات الرمادية الهاجعة في إفريز المنارة الزرقاء تتناثر محلقة فوق القرية الخالية ضربات فرشاة باهتة في أقصى النها دعنا نخرج من هذه الممرات التي لا تصلح لأجنحة النسور أذكر أنك قلتها وأنت تأخذ بيدي وقلت ونحن نمر بالسكرتيرة المشغولة دائما بشد أطراف ثوبها حول فخذيها الرفيعين نغمة نداء الفاختة يكتبها كل شعب بلغته وكذلك انتحار الوعول يا لهذه اليواقيت الفاخرة على أسرة السماسرة والوسطاء ألا تعتقد أنها ترتكب خيانة ما بحقنا نحن الشعراء نحن وعول أخيرة ربما وعول حضارات مفقودة ما الذي يفعله وعل يحاصر من كل الجهات إلا يلقي بنفسه من أعلى الصخرة الأخيرة نغمة نداء الفاختة يكتبها كل شعب بلغته وكذلك انتحار الوعول من يدري ما الذي تقوله الفاختة ولماذا لا يكون ما نلمس في هذا الوجود هكذا نغمة نداء بعيد يترجمه كل إنسان مثلما يحس ويرى نغمة بلا أبجدية كما هي المرأة وهذا النهار وذلك الشاطئ وتلك القطعان البرية من الوعول التي لا نهاية لعددها نغمة بلا أساتذة نحو وخريجي جامعات ستنمو على ياقاتهم الطحالب بلا مكتبات سيتحول سكانها إلى رفوف ومناضد ومجلدات من تراب الصالة الواسعة تشعرني بالارتياح دائما إلا أن صوت مغنية الأوبرا يحسسني بالضيق كما لو أن ربطة عنقي تضغط وتضغط صوت امرأة ترتجف عارية تحت رذاذ ماء بارد تقاوم ارتعاشها وتواصل غناءها الحاد الرفيع أشجار الكينا العالية لا تزال بأوراقها المرتجفة وجذوعها الملتوية تطل على زرقة شط ما ذات ظهيرة زقزقات العصافير الخفية في ظلمة السدرة تواصل النهار كما لو أنها انطبعت في الروح خدشتها رسمتها وهذه الوعول ربما كنت وعلا وقع على جسدها الشاسع البياض تحت الغطاء الأبيض ربما كنت وانتبه أخيرا على صورته المتغيرة في مرآة غرفة نومها رجل في الثلاثين يحاول تناول الوجبات السريعة والكلمات المناسبة رجل يعجز عن التسمية فيقول اللون والحجم والشكل كأنه يتذكر لغزا جين في مطبخها تعد وجبة الغداء أنت تشبه أخي الذي انتحر كان يسخر من الغناء الأوبرالي فهل من المعقول أن يغني الإنسان وهو يموت عاطفية مضحكة لا أذكر الأيام حسب تواليها المعهود فأنا أقول الثلاثاء فالاثنين والخامسة فالرابعة هنالك فجوة دائما شيء مفقود الجنون هو ما نشتهر به نحن الأيرلنديين يقال إن أيرلنديا يحمل قنبلة يدوية أفلت صاعقها سألوه عن عدد رفاقه فبدأ يعد على أصابعه وحين وصل العدد خمسة وضع القنبلة التي تكاد تنفجر بين ساقيه وواصل العد على أصابع يده الأخرى لا بد أن أخاك كان حساسا وليس مجنونا ربما إلا أنني أحببته كان الوحيد الذي أحببت ألح على ويندي الليلكة الأسترالية الموحشة أن تبقى زمنا أطول ما يمكن وسط ضجيج المحتفلين والراقصين والهامسين في الزوايا كأن غيابها سيسحب خيوط هذا الاحتفال إلى الأبد ويسحب من القلب نقوشه المرتسمة يغلبني شعور بالبكاء وهي تمسك بحقيبتها وتقف مترددة حائرة شعور بالفراغ المهدد بأن كل شيء سينتهي وتضمحل هذه الالتماعة البراقة في العينين وهذا الوجه الطفولي الداكن السمرة وهذا الجسد العصي على التدجين ما إن تستدير وتذهب ويظل لي هذا الضجيج وجين وأصدقاؤها والسيد ويست الثقيل المتهدل الخدين والجاحظ العينين أريد رؤية هذا الذي جعل النجوم تلتمع في عينيك خضرة عينيها في آخر الليل كامدة وجسدها يتراخى وخيوط حمراء تبرز فجأة على أطراف بياض عينيها ماذا حدث الحشيش يا صديقي الحشيش فعلا فهكذا ينطقونه بالإنكليزية أيضا ولا أتأكد مما يحدث إلا حين تخرج العلبة وهي تحدق بي بعينين محمرتين وتبدأ بنثر سيجارة ولفها حول قطعة سمراء داكنة النجوم السيد ويست ما جنسيته بريطاني أو قل لبناني خليجي كل شيء يراهنها على أنني لن أقبل دعوتها أن أظهر أمام الناس معها تقول هذا بعد أن رفضت في البداية وها أنا من خسر الرهان تميل علي ويندي وتقبل خدي يا صغيري كأن غيابها سيسحب خيوط هذا الاحتفال إلى الأبد ويسحب من القلب نقوشه وتضيع بقية الكلمات تضيع كلماتي لا أجد لغة شيئا تفهمه كما يفهم الإنسان نبضة قلب أو رجفة شفتين أو ظل غابة في الذاكرة سمرتها القاتمة تجعلها نائية من عالم تشتعل فيه الشموس وتمتد مروج حتى نهاية الأفق لمسة شفتيها خفيفة تذوب ما إن تستدير وتمضي ويتصاعد الضجيج أرجو ألا تصدم إن رأيت أشياء لا تعجبك الأمر لا يعنيني إذن لنذهب قالتها بمرح فراغ ساكن وساكن هل تعرفني بها آه نعم جين أمي تتوتر رقبتها وتنتزع نفسها من المقعد أبعد نظري وأواصل الجلوس بإصرار مثل حجر ثقيل لا يعي ما يدور حوله في قفص الدجاج يظل النسر عاطلا عن العمل غموضه وبطالته يحيران الدجاج يتساءل دائما يراقب تهاديه وكلماته المطبوعة ولا يفهم وفي نهاية المقال أبرر هكذا أجنحة النسور ضخمة عادة معدة للطيران في الفضاء وليس للتهادي في الردهات الضيقة مناقيرها مقوسة غير مهيأة لالتقاط الحبوب أليس مؤسفا أن تشرب النسور العصير اليومي وتقشر أيامها كما تقشر بصلة النسور العاطلة عن العمل ربما هي التي خلقت الحضارات حين كان يجيء زمنها أما الآن فهي دجاج شاذ لا يصلح لشيء مقالك غامض ترى من سيفهمه أنا أفهمه وآخرون أعود إلى ورقتي تاركا جوابي معلقا في الهواء تبرز بين الأنقاض آلاف الصفحات من صحيفة ممزقة وآلات طباعة محطمة يحدث هذا قبل أيام قليلة من حادثة كاريكاتير ناجي الذي هز الصحيفة وصاحبها بطين مترهل يشبه تمام الشبه حاكما عربيا يغرس عصا مظلة يرتسم على قماشها علم أميركا بين فخذي امرأة على شاطئ البحر على خصر المرأة كتب ناجي عبارة Middle East وتوقفت عندها الظهيرات الساكنة الثورة يا صديقي وهم أسطورة ولكن ويندي ليست أسطورة بالشموس التي تحملها ولا ظلال الوعول التي توقفت واضمحلت كأنما في أفق برية شاسعة تاركة لي جبلا أفكر فيه وطرقات متعرجة ونيرانا تلتمع في الليل حيث يتقاسم الرفاق وجبتهم وإلى جانبهم تلتمع الأسلحة لم أحب ويست حين انتحى بها جانبا وهو ينقل كأسه من يد إلى يد في أقصى الصالة هل أنت مثلي لماذا تسألين لأن ويست كذلك والكثير من الرجال ليس أنا الثورة وهم الثورة وهم الثورة وهم ولكنهم يعذبون الأطفال لا تذكرني الصغار يثيرون شفقتي في الصالة تنفتح جين مثل ياقوتة زرقاء أرفعها إلي وأحتضنها تلتصق بي مندهشة أوه كيف يحدث هذا سريعا هل هو بالفكر أم بمجرد اللمس أغمغم وأنا أشعر بامتلاء نهديها وجسدها لا تسأليني لا أدري سماء من التركواز أشجار كينا تمتد عميقا في مياه البحيرة وعول تتشمم الهواء تنحني على الماء فيصدر لمعات متوهجة وهج في كل مكان ظهيرة ملتمعة وأنا أركض من مكان إلى مكان ولا أصل أتعثر ولا أصل وهج في كل مكان فتقهقه وهي تنحني وتأخذ بيدي أنهض متباطئا أتلفت حولي حيث كانت الوعول والمياه والأشجار لغتك الإنكليزية أزهرت فجأة لغة جميلة شيء غريب طعم غريب تولجه في اللغة ربما بفضلك هل تسمح إن أصلحت أخطاءك أخطائي كثيرة لم تكن اللغة أحدها ولا النفور من هذه الخمرة القوية ولا هذه البرية الشاسعة التي تسمينها وهما أخطائي ربما هي أنني غادرت الغابة متوجسا منذ زمن طويل ولم أعد أعرف كيف أعود الشكاوى ترتفع ويضج المبنى يهتز يكاد يتقوض يتناثر وتبرز بين الأنقاض آلاف الصفحات من صحيفة ممزقة مقاعد جلدية يعلوها التراب آلات طباعة محطمة صور صور ولعنات رئيس التحرير وهو يفتش بين الأكوام ويصرخ حانقا يتطلع إلى السماء ليعرف مصدر الصوت الساخر ربما صوت النسور المحلقة وهي تضحك وترمي إليه بالأوراق والأقلام فتهبط بطيئة بطيئة أمام عينيه الذاهلتين الرماد يتساقط في ظهيرة معتمة مثل هذه على امتداد شاطئ ناء كان ذهبيا ذات يوم ثم برونزيا وفجأة يتحول إلى حديد وصدأ أكوام حجارة تعلوها الأعشاب وتغوص في وحل الشاطئ حتى حدود المياه فتتلألأ صورتها مدينة وهمية سكانها الأسماك والقواقع وزرقة الليلك الطافي وهياكل السفن المنخورة وفجأة تلوح سفينة أشباح من أعلى فنار مطفأ منذ مئات السنين وأنا أركض من مكان إلى مكان ولا أصل أتعثر ولا أصل عتمة في كل مكان أقص رؤياي على ناجي فيبتسم بغموض ويعود إلى لوحته يطعنها بقلم مثلوم أقص رؤياي على جين فتصرخ بفزع وتفتح عينيها سحابة خضراء من زجاج وسكون أقص رؤياي على ويندي فتضحك وتضمحل على الجدار المقابل لا تقصص رؤياك على أحد لا تقصص رؤياك