ما أن نستمع إلى موسيقى الجاز في الأعوام العشرة الماضية على الأخص الفرق الناشطة في أوروبا الغربية والشمالية الاسكندنافية حتى تعود أهمية موسيقي من زمن السبعينيات مثل جيمس تشانس إلى الظهور وإن لم يكن مؤسس فرقة Contortions في عهده نجما ساطعا ضمن الوسط الجازي التقليدي بقدر ما كان شخصية مثيرة جدل فقد ينظر إليه اليوم كصاحب نبوءة إزاء المآل الذي انتهى إليه الجاز هذه الأيام جيمس تشانس نفسه الذي رحل الأسبوع الماضي عن 71 عاما كان قد أيقن مبكرا أن وسط الجاز التقليدي كما ظل سائدا في أول عهد شبابه من زمن الخمسينيات وحتى الستينيات ليس بكأس الشاي التي يفضل كما يقال ظل أميركيا أبيض البشرة يجاهد في شق طريق كعازف ساكسوفون ضمن بيئة فنية تمثل بغالبيتها الثقافة الأميركية السوداء قدمت كوكبة من العازفين الأفروأميركيين المهرة ممن ورثوا تقاليد البلوز الأب الروحي للجاز عبر أجيال منهم من صانه وحافظ عليه ومنهم من طوره أو ثار عليه لذا خط جيمس تشانس لمسيرته مبكرا طريقا تخرجه من حلبة منافسة خاسرة كان لإقامته في مدينة نيويورك الأميركية على الساحل الشرقي المقابل للقارة الأوروبية الفضل الجلي في إلهامه بمعالم طريقه في فترة السبعينيات ازدهرت نيويورك بوصفها معقلا لتيار الفن المفاهيمي الذي ذهب بالتعبير الفني إلى ما وراء حدود التجريد سواء في ميدان الوسائط البصرية أو تلك السمعية بالنسبة إلى الأخيرة بات بإمكان الضجيج المحض أن يصبح شكلا صوتيا وأن يشكل الصمت المحض مقطوعة موسيقية ليستعاض أحيانا عن العزف على آلة موسيقية بتعابير جسدية مكتومة أطلق على تلك الحركات الفنية النيويوركية البصرية والسمعية اسم آفان غارد Avant Garde وهو مصطلح مأخوذ من المعجم العسكري الفرنسي للقرن التاسع عشر يصف الطليعة التي تتقدم صفوف الجيش الأمامية في إشارة إلى نخب فنية تقوض التقليدي السائد وتتصدر البحث عن الجديد الثوري والمختلف الذي ليس من غايته الرواج ولا يسعى إلى أن يكون سائغا فتقبله الذائقة العامة انتسب جيمس تشانس إلى آفان غارد من خلال إحداثه لونا في الجاز عرف باسم لا موجة No Wave بغية سحب مكون النخبوية منه أو تخفيفه أضاف إليه موسيقى الروك آند رول التي استأثرت بعموم الشباب الغربي الأميركي والأوروبي زمن السبعينيات على غرار ما يعنيه الاسم تحرر الأسلوب من أي موجة أو منهج مبقيا على كل من عنصر الارتجال المستورد من الجاز الصخب الكهربائي المستمد من الروك والأدائية المستلهمة من العروض والفن المفاهيمي القائمة على الإيماء والتعبير الجسدي بشكله التجريدي الذي لا يعكس نسقا معروفا مألوفا في أغنية Contort Yourself لـ جيمس تشانس مع فريق Contortions في مقطع تسجيلي حي يعود إلى سنة 1979 صور خلال حفل ضمن مهرجان موسيقي في مدينة منيابوليس الأميركية يظهر أثر موسيقى الروك بوصفها الإطار العام للأغنية لجهة الضرب الثنائي المنتظم على طبول الدرامز والنسق النغمي المتكرر Riffs الصادر عن آلات الغيتار الكهربائي ناهيك عن لغة جسد المغني خلال أدائه الأغنية التي يحاكي بها استعراضيا وساخرا نجوم الروك في حقبة السبعينيات إلا أن ثمة اختراقات نافرة ناشزة تعارض سمات الإطار العام تأتي من مركب الأصوات Synthesiser لا هيئة نغمية لها ولا منطق موسيقي يحكمها تمنع تحول Contort Yourself إلى أغنية روك تقليدية وقد أخذ الجاز التقليدي خلال الألفية الحالية في التبلور ليس بوصفه الموسيقى الأكثر إتاحة للارتجال والتجريب كما كانت الحال حين خاض غمارها تشانس في منتصف السبعينيات وإنما بوصفه فنا موسيقيا قائما على إرث ناهز عمره القرن من الزمان بات يخسر بذلك من سحره وجاذبيته إذ بات موسيقيوه يدرسون في أكاديميات مرموقة ويخوضون امتحانات صعبة ومسابقات دولية وعليه تمأسست معارفهم ومهاراتهم وتمعيرت مستوياتهم وتقنياتهم الأمر الذي صار يهدد جوهر هذا اللون الموسيقي والروحية التي أتى منها ألا وهي الأصالة والنضارة والعفوية التي لا تنفي بالضرورة المعرفة والكفاءة والحرفية بل تبني عليها وتوظفها في لون موسيقي ظل ينظر إليه على أنه الفضاء الأرحب للحرية والحوارية الموسيقية في هذا السياق وفي مقالة بعنوان هل قتلت الأكاديميا الجاز منشورة سنة 2019 في المجلة الموسيقية The Wire عزا الناقد الأميركي آدم غوستافسون انحسار جماهيرية الجاز إلى مأسسته على يد الجامعات والمعاهد إذ رأى أنه منذ أن جعلت الأكاديميا موسيقى الجاز تتربع عاليا كفن رفيع لم يعد هناك أمل بصعود في شعبيته من جديد فالولايات المتحدة وهي أمة حديثة العهد نسبيا ظلت تبحث لها عن فن يمكن أن تنسبه إلى نفسها كهوية ثقافية أصيلة وجدت في الجاز ضالتها وعليه أخذت موسيقى الجاز تتحول من نبض حياة الناس إلى منتج ثقافي متقن ومنمق معد للتصدير صنع في الولايات المتحدة هكذا بات الأمل ببقاء الجاز مرتبطا بتحوره إلى أشكال أكثر تحررا من المؤسسة الأكاديمية والتقاليد الفنية التي حولت الجاز إلى منتج ذي معايير وبالتالي مسحوبة منه نكهات النضارة والعفوية والحيوية إذ يتم ذلك عبر تلاقحه مع ألوان موسيقية أخرى عصية بطبيعتها على المأسسة الروك على رأسها فضلا عن الموسيقى الإلكترونية التي ما انفك وجودها يتمدد داخل الأجناس الموسيقية الأكوستية المختلفة أي تلك التي تعتمد التصويت الناتج عن الرنين الطبيعي للآلة الموسيقية في إنتاجها للموسيقى يحاكي الجاز العصري الهجين الذي ينشط اليوم في أميركا وأوروبا نهج اللاموجة الذي نادى به تشانس وعمل لأجله ليجعل منه بعدد رحيله موسيقيا صاحب نبوءة