الوهم عدو يحجب رؤية الحقيقة ويقيد الإرادة
في إحدى الليالي المُمطرة، كنت أقرأ بعض المقالات في مجلة العروة الوثقى لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وقفت على مقال مُعنون بـالوهم، أثار في نفسي تأمّلات عميقة حول هذه القوّة الخفيّة التي تسكن عقول البشر وتوجّه حياتهم، وشعرت بأنني أمام مرآة تعكس جانبًا من حياتنا الفردية والجماعية، جانبًا قلّما نلتفت إليه أو نعترف به.
كان الوهم، في نظرهم، أشبه بمرض عُضال يصيب الأمم والشعوب، يعطّل حركتها، ويكبّل إرادتها، ويحرف بوصلتها نحو مسارات خاطئة. إنّه أحد أشدّ الأعداء غموضًا وأثرًا في حياة الإنسان، إذ يتسلّل إلى النفس خُفية، ويقيم مملكته في العقل من دون أن يشعر صاحبه. كذلك فإنّه المزيج الغريب من الحقائق المشوّهة والخيالات الجامحة التي تجعل الإنسان يرى الأشياء على غير حقيقتها، ويفسّر الواقع بطرق تُبعده عن جوهر الأمور. إنّ الوهم ليس خطأً في الإدراك أو نقصاً في المعرفة، بل هو قوّة قاهرة تتحكّم في الإرادة، وتصوغ العزيمة وفق تصوّرات زائفة، فقد يُظهر الوهم القريب بعيدًا، والمُخيف آمنًا، والمُمكن مستحيلًا، فيجعل الإنسان أسيرًا لعالمٍ من التصوّرات الباطلة التي تحول بينه وبين تحقيق طموحاته أو تجاوز مخاوفه.
في تاريخ الأمم، كان الوهم دائمًا أحد الأسباب الكامنة وراء إخفاقاتها أو استسلامها للقوى الخارجية. فعلى سبيل المثال لا الحصر: حينما استولى الإنكليز على أجزاء واسعة من الشرق، لم يكن ذلك بقوّة عسكرية جبارة أو بقدرة خارقة على التخطيط، بل بمزيج من الدهاء واستغلال الأوهام التي كانت تسود عقول الشعوب الشرقية آنذاك، فقد كانت تلك الشعوب تنظر إلى التكنولوجيا الغربية على أنّها نوع من السحر، وإلى المستعمرين على أنّهم قوى لا تُقهر. وهكذا استُعبِدت أعداد غفيرة من البشر من دون مقاومة تُذكر، لأنّ الوهم طمس بصائرهم وجعلهم غير قادرين على إدراك قوتهم الذاتية.
إنّ الوهم ليس عائقًا فكريًا، بل هو حجاب يحجب الحقيقة ويعطّل الفعل، فالشعوب التي تعيش في ظلّ الوهم تخضع لأوهام القوّة عند أعدائها، كما تخضع لأوهام الضعف في ذاتها، فهو يُشبه المرآة المشوّهة التي تُظهر الصغير كبيرًا، والكبير صغيرًا...، إنّه
ارسال الخبر الى: