المكارثية لا تفنى
في خمسينيات القرن الماضي، أشعل السيناتور جوزيف مكارثي نار الشك والاتهامات في أميركا، مطاردًا أشباح الشيوعية بين موظفي الحكومة الفيدرالية، والمثقفين والفنانين، والأساتذة والأكاديميين، والناشطين والنقابيين، وحتى العسكريين والدبلوماسيين، في حملة صيد ساحرات اتسمت بترويج الخوف والاتهام من دون أيّة أدلة، حملة خلقت جوًّا من الارتياب والقمع في المجتمع الأميركي، حيث كانت الشبهة وحدها كفيلةً آنذاك بتحطيم حياة بأكملها.
لم يخض جوزيف مكارثي حينها معركة ضدّ المدِّ الشيوعي بقدر ما كان يؤسّس لمنهج جديد في قمع الآخر، منهج يعتمد الشبهة بدل الدليل، والتخوين بدل الحوار، والقائمة السوداء بدل النقاش العام. انتهت حقبة المكارثية نظريًا في عام 1954، فبعد سقوط السيناتور مكارثي وفقدانه نفوذه، اختفت المكارثية بوصفها حركة سياسية مؤثّرة، معلنةً نهاية فصول تلك الحقبة، مع بقاء آثارها في الذاكرة الأميركية في فترة مظلمة من الخوف والاضطهاد السياسي، أو هكذا خُيّل لنا.
للأسف، يبدو أنّ المكارثية لم تُدفن مع نهاية ذلك العقد؛ بل بقيت تتسلّل بين الحين والآخر إلى مناطق جغرافية مختلفة من هذا العالم، تتلوّن بألوان العصر وأقنعة الحاجة. واليوم، مع صعود السلطويات القومية والشعبويات المتطرفة شرقًا وغربًا، نجد المكارثية تطلّ علينا بأسلحة مطوّرة تُلوّح بالتخوين، وتُشهر سلاح الاتهام، وتخوض معاركها ضدّ الحقيقة باسم الأمن والوطن والهوية. فهل المكارثية الآن مجرّد تاريخ أميركي أسود؟ أم أننا نشهد انبعاثها؟ لا في أميركا وحدها، بل في ساحات مختلفة حول العالم.
في نسخها المعاصرة تخلّت المكارثية عن حجة الشيوعية واستعاضت عنها بمفردات أكثر طزاجة كالإرهاب، والعمالة، والأجندات الخارجية، والكراهية
المكارثية، فكرةً، لم تختفِ، بل على العكس تطوّرت وامتلكت القدرة على تجسيد أشواكها في أشكال مختلفة في ودياننا الطيّبة، تُمكنها من التكيّف مع متطلبات زمانها ومكانها، بحيث تبقى حيّة في خطاب كلّ من يرى النقد تهديدًا، وفي سلوك من يستبدل المحاججة بالوصم، وفي بنية أنظمة لا تحتمل التعدّد إلا زينةً وإكسسوارًا تجميليًا تتراقص أذنابه على الإيقاع الذي يعزف لهم.
في نسخها المعاصرة تخلّت المكارثية عن حجّة الشيوعية واستعاضت عنها بمفردات أكثر طزاجة كالإرهاب، والعمالة،
ارسال الخبر الى: