المحاماة مهنة الفكر والنار المقدسة

يمنات
سنان بيرق
ليست المحاماة مهنة تقليدية، ولا وظيفة تُؤدّى على وتيرة واحدة. بل هي رحيل يومي إلى مجاهل العقول، ومعركة ناعمة في محراب العدالة، حيث لا سلاح للمحامي سوى قلمه، ولا درعه إلا فكره، ولا زاده إلا علمه وضميره.
أجمل ما في المحاماة أنّها لا تمنحك لقبًا فحسب، بل تمنحك ذاتك، تعيد تشكيلك مع كل قضية، تصقلك مع كل جلسة، وتعيد ترتيب خلايا عقلك كلما قرأت سطرًا في ملف، أو نقّبت عن حكمٍ في سوابق القضاء.
اليوم تمسك بملف جنائي، فتتحوّل فجأة إلى باحث جنائي، تغوص في دهاليز الجريمة، تفتش في النوايا، وتفتّق النصوص القانونية كما يُفتّق الجراح نسيج الجرح.
وغدًا، تجدك أمام دعوى مدنية، فتتحول إلى مهندس حقوقي، توازن بين المصالح، وتزن الكلمات كما تُوزن الأحجار الكريمة.
ثم تأتيك دعوى عمالية، فتخلع عنك رداء الصرامة، وتلبس ثوب العدالة الاجتماعية، تسمع أنين العامل، وترى في كل مادة من قانون العمل صرخة كرامة.
وبين هذه وتلك، تمر على قضايا الأحوال الشخصية، التجارية، الإدارية… فتغدو الموسوعة الحية التي تمشي على قدمين.
كل قضية تمر بك، هي ساحة تدريب علمي ووجداني، كل مرافعة تُلقيها، هي امتحان لبلاغتك وعمق فهمك وسداد منطقك.
وما من محامٍ مبدعٍ إلا وكان في جوهره كاتبًا نابهًا، وما من كاتب قانوني أصيل إلا وكان باحثًا شغوفًا، قارئًا نَهِمًا، لا ينام الليل حتى يروّض الفكرة، ويجعلها طيّعة في محرابه.
أما أولئك الذين استسهلوا الطريق، ولجأوا للقص واللصق، فهؤلاء لا يُسمّون محامين، بل مجرد سعاة بين أوراق لا يفهمونها، يموت نصهم في أول سطر، لأن لا روح فيه، ولا اجتهاد خلفه.
أنا لا أكرر نفسي، ولا أقدّم لكل قاضٍ ذات الديباجة.
فمنهم من أعلم أنه قارئ نبيه، أُحسن له البيان، وأُطرّز له المقدمة كما تُطرّز قصيدة لملك، لأن الإبداع يليق بمن يقدّره.
ومنهم من لا يقرأ، فلا أُهدر البيان عليه، بل أوجّه له المعنى عاريًا، واضحًا، كطلقة لا تخطئ الهدف، لأن العدالة لا تحتمل أن تُقال بلغة لا تُفهم.
المحاماة
ارسال الخبر الى: