الفلسفة حارسا للمعرفة وأداة للتغيير
منذ أن انفتح وعي الإنسان الأوّل على سؤال الوجود كينونةً والغاية منها، تكوّنت أولى بوادر الفلسفة بوصفها استجابة عميقة لقلق الكائن إزاء ذاته والعالم. فلم تكن الفلسفة مجرّد نشاط عقلي نظري أو ترف ذهني معزول، وإنما نشاط عقلي انبثق من الرغبة في الحكمة، وسعت إلى تجاوز ظاهر التجربة الحسّية نحو أفق أرحب حيث يتجلّى المعنى.
في هذا السياق، لم يكن سقراط ليعرّف الفلسفة إلا باعتبارها بحثاً دؤوباً عن الخير والحقّ والعدل، مؤكّداً أنّ الحياة بلا تجربة لا تستحق أن تُعاش. ومنذ تلك اللحظة التأسيسية، تجسّدت الفلسفة في كونها حركة نقدية مستمرّة تعيد النظر في المسلّمات وتضع الأنساق القائمة موضع مساءلة، مانحة الإنسان القدرة على الوعي بذاته وعلى التحرّر من قيود العرف والسلطة والقوالب الاجتماعية والقواعد العقلية المُكتسبة.
بينما يختصّ العلم بالكشف عن البنى والآليات المادية للواقع، تظلّ الفلسفة هي الحاضنة الأولى للأسئلة الجوهرية، والمختبرة لكلّ تأويل معرفي في ضوء أفق أوسع من المعنى والغاية. فقد رأى كانط أنّ الفلسفة ليست مجرّد علم من العلوم، بل هي الإطار النقدي الذي يُنظّمها ويوجّهها، من خلال أسئلته الأربعة الأساسية: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب علي أن أفعل؟ ما الذي يحقّ لي أن آمله؟ وما الإنسان؟
لا تنحصر الفلسفة النقدية في تحليل المفاهيم، بل تمتدّ إلى ممارسة عملية تستهدف تحرير الإنسان من البنى التي تكبّله
إنّ هذه الأسئلة لا تُبرز الفلسفة وسيلةً للمعرفة فحسب، بل تكشف عن جوهر النقد ذاته، إذ تحدّد حدود العقل وتبيّن تناهيه، مؤكّدة أنّ كلّ يقين معرفي يظلّ رهين مُساءلة مستمرّة. ومن دون هذا التأسيس النقدي الكانطي، تصبح المعرفة مُعرّضة للجمود والدوغمائية، ويغدو العلم فاقداً لشرطه الإبستمولوجي والأخلاقي، عاجزاً عن ضمان مصداقيته أو توجيه ممارساته بما يتسق مع أبعاد القيمة والغاية.
وإذا كان كانط قد دشّن مفهوم النقد من داخل الفلسفة النظرية والأخلاقية، فإنّ ماركس نقل هذا النقد إلى مستوى البنية الاجتماعية والاقتصادية، مؤكّداً أنّ الفلسفة ليست تفسيراً للعالم فحسب، بل هي أداة لتغييره. لقد كشف ماركس عن آليات
ارسال الخبر الى: