في جمعة ليست بعيدة تأخرت عن صلاتها فدخلت أول ما صادفني من مساجد في وسط القاهرة امتلأ متنه فافترشت رصيف الهامش مع المتأخرين من أمثالي نتابع الخطبة عبر مكبرات الصوت والخطيب يؤكد لنا أو ربما لغيرنا ممن يتابعه أن حب الوطن من الإيمان ورغم أن محبة الوطن لا محل لها من الإعراب في وقت الإبادة إلا أنه لا مانع لنسقط التكليف ولننصرف إلى حال سبيلنا أنا هنا لأصلي لا لأتفلسف أو لأتخانق فجأة انقلبت النبرة وتصاعدت حتى أصبحت صراخا التقطت من ضوضائه شتما للعيال الخنافس بتوع حقوق الإنسان والديمقراطية وعن حقيقة كونهم جواسيس يقبضون باليورو والدولار ويستقوون بالخارج ويعملون طابورا خامسا يهدمون البلاد ويخربون الحياة على العباد وأن بقاءهم وسطنا من يقصد بنحن وما الذي يجب فعله كي لا يبقوا وسطنا يهدد باحتلال وخراب وفحش ودعار كان بعض الجالسين يعرفني أربكني الأمر قليلا إلى أن بدأنا نتبادل الابتسامات والغمزات بتردد في البداية ثم بما يشبه الضحكات قرب الختام وحين انتهت الصلاة كان غالب المصلين يشتمون وهم يلبسون أحذيتهم لا الخونة الذين هاجمهم الخطيب إنما الخطيب نفسه ومن عينه ومن كتب له الخطبة والضابط الحمار الذي يشغلهم جميعا لم يكن غضبا بقدر ما هو سخرية وربما قرف تأسسا على وعي مكتوم بحقيقة الحال من يشغل من ولماذا توقف الحاضرون عن التعامل مع المسجد بصفتها فضاء عبادة ولا الخطبة باعتبارها شيئا يعنيهم إنما خلفية موسيقية مزعجة لفريضة وجب عليهم القيام بها ولا وجه لذلك إلا بحضور هذا القيء الأمني على المنابر حسنا لنتجاهل ما يقول المخبر الخطيب ونصلي صلاتنا ثم ننصرف لم يعد السابق من أداء الدولة في صورها الزائلة كافيا ولم تعد العسكرة المادية في صورها المباشرة جيش وشرطة وقضاء وإعلام وسينما وطرق وكباري كافية إذ يتفلت منه شيء اسمه الاعتقاد وإن كان محله القلب لكن للقلوب مسالكها وإن كانت القلوب تتعلق بـالله حقيقة أو ادعاءا أو تقليدا وهكذا حوصر الناس برا وبحرا وجوا والهاربون من قمع العسكر على الأرض إلى براح خالقهم وعدالته ووعده بالعدل المطلق في محكمة الآخرة سيجدون الجنرال في صورته الإلهية أو الإله في صورته الجنرالية ينتظرهم يمكن تتبع تاريخ الصراعات بتأريخ خطبها ومنابرها في المسيحية كما الإسلام تمجيدا وتكفيرا وانقلابا وتناقضا يمكن تتبع تاريخ الصراعات بتأريخ خطبها ومنابرها في المسيحية كما الإسلام تمجيدا وتكفيرا وانقلابا وتناقضا وفي الآثار خطب دعي في أولها لحاكم ثم لعن في آخرها لانقلاب الحال عليه وانتزاع الملك منه وددت لو أنصح بألا نأخذ هذه المنابر بجدية لكنها مكان تأثير وتوجيه وليس الكل على حال الشاتمين في مثال المفتتح هناك عقول ستتشكل على هذه الخطب الأمنية ستكفر وتخون وتقاتل وتقتل وتخذل وترضخ لأن مخبرا على المنبر أقنعهم بأن هذا كلام الله وصحيح الدين ومخبرا في الدراما قال مثله ومخبرا في سجن وفي المحكمة وفي الشارع وفي الملعب وفي المنامات والخيالات وددت لو أنصح أن يتوقف الناس عن الذهاب لهذه التجمعات الأمنية مقاطعة لا انسحابا وتمردا لا تجنبا لكن اتهامات ازدراء الأديان والاعتداء على الذات الإلهية ما زالت تلاحقني لكني أعتقد بضرورة التعاطي مع هذا الحال كما يستحق لا كما نحتمل صلاة تمجد الطاغية وتلعن المقهور تتجاهل المقاومة أو تحرض عليها وتدعو الفقراء للصبر ولا تدعو اللصوص للرد توجب عليك حب الوطن ولا توجب عليه إعطاؤك حقك كيف تقبل صلاة كهذه أليس هذا تجمعا مستحقا للطرد ما لم يقم منهم واحد فيسكت هذا العسكري على المنبر أو العسكري في القصر أو العسكري الذي يشكلون صورته في السماء لنخافه قد لا نتمكن الآن من طرد العساكر من واقعنا لكن يمكننا أن نطردهم من مخيلاتنا وأفكارنا وعقائدنا أن نسمهم عساكر كما هي الحقيقة قد لا نملك القدرة بعد على إزاحة الجنرال في القصر أو المخبر من المنبر لكننا نملك الآن على الأقل أن نشك أن نعيد تسمية الأشياء ونردها إلى أصولها أن نميز بين الله العدل وهذا الذي عسكر في الخطبة وتحول من خطاب رحيم إلى نشرة دورية من الأمن الوطني يمكن أن نصلي دون أن نسلم إلا للذي نصلي له يمكن أن نؤمن كفعل مقاومة لا كإعلان رضوخ إن لم نغادر المساجد احتجاجا فلنذكر بأن الشك والسؤال كما الثورة والغضب لا يعيب إلا منكرهم ذلك الذي يحاول إقناع الجميع أن الجنة كما الغنى والترقي والشهرة وكل مصلحة طريقها عبر بوابة أمنية قد لا نتمكن الآن من طرد العساكر من واقعنا لكن يمكننا أن نطردهم من مخيلاتنا وأفكارنا وعقائدنا أن نسميهم عساكر كما هي الحقيقة وذلك في زمن عسكرة الإله بعد عسكرة الوطن مقاومة لو تعلمون