شكلت اللحظة التاريخية 8 ديسمبر كانون الأول 2024 منعطفا تاريخيا فارقا في حياة السوريين المغتربين لن ينسوه أبدا حيث حملت معنيين بارزين يتمثل الأول في سقوط النظام الذي طالما حرمهم من رؤية وطنهم وأجبرهم على التعامل مع تعقيدات الأوراق القانونية خلال سنوات الغربة القسرية أما المعنى الثاني فهو التساؤل الملح ماذا يحمل الغد لا ريب أن هذه المفاجأة السارة غيرت خطط الكثيرين من السوريين في مختلف أنحاء العالم اليوم يقف عشرات الآلاف من اللاجئين والمغتربين أمام مفترق طرق حاسم هل يبقون في الخارج أم يتخذون قرار العودة إلى سورية للمساهمة في جهود إعادة البناء على أن هذا القرار لا يقتصر تأثيره عليهم فقط بل يمتد ليشمل الدول المضيفة التي قد تشهد تغيرات اقتصادية واجتماعية نتيجة عودة قسم من اللاجئين إلى وطنهم السوريون في الخارج إلى سورية عد عاش السوريون سنوات الصراع منذ عام 2011 حتى 2024 وهم يطمحون إلى مغادرة وطنهم بحثا عن الأمان والاستقرار كان الحلم الأكبر لمعظم الشباب السوريين هو الحصول على تأشيرة سفر أو إيجاد طريقة للهروب من واقع قاس مليء بالخوف والفقر والبطالة تحمل الآباء أعباء نفسية كبيرة لحماية أبنائهم من الالتحاق بجيش النظام أو من البقاء في بلد مثقل بمخدر الكبتاغون والعقوبات والفساد اليوم وبعد سقوط النظام بات هذا كله جزءا من الماضي ليبرز السؤال هل ستعود إلى سورية بوصفه سؤالا محوريا بين السوريين في كل مكان طوال سنوات الصراع عانت سورية نزيف أدمغة غير مسبوق حيث هاجر الآلاف من الشباب أصحاب الكفاءات والشهادات والعمال في مختلف التخصصات وفقدت البلاد عشرات الآلاف من الكوادر المهنية والعلمية تشير التقديرات إلى أن هناك 6 7 ملايين سوري لاجئ خارج سورية موزعين بين دول الجوار وصولا إلى أبعد نقطة في العالم عودة هؤلاء تشكل فرصة ذهبية لتحقيق نقلة نوعية في إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية اكتسب السوريون في الخارج خبرات هائلة في بلدان المهجر واللجوء خاصة في مجالات الهندسة والطب والتعليم والصناعات التقنية تشكل هذه الخبرات رصيدا لا يقدر بثمن لإعادة بناء سورية وتسد فجوات هائلة في رأس المال البشري الذي دمرته سنوات الحرب يعمل عشرات الآلاف من السوريين في دول الجوار مثل الأردن ولبنان وتركيا والعراق في قطاعات حيوية تشمل الزراعة والبناء والخدمات ومن شأن عودتهم إلى سورية تسريع وتيرة التعافي الاقتصادي وتحقيق الاستقرار في سوق العمل إلى جانب الكفاءات المهنية يعد رجال الأعمال السوريون في الخارج ركيزة أساسية لتحفيز الاستثمار الداخلي العديد منهم يمتلكون ملاءات مالية كبيرة تقدر بمليارات الدولارات في دول الخليج العربي وأوروبا وأميركا هؤلاء المستثمرون يمكنهم أن يكونوا قاطرة لإعادة تنشيط الاقتصاد السوري كما توسعت أعمال مئات الصناعيين السوريين في بلدان مثل تركيا ومصر والأردن لتصل استثمارات السوريين في تركيا وحدها إلى 10 مليارات دولار تشكل 1 96 من إجمالي الناتج المحلي التركي وفقا لتقرير غرفة تجارة إسطنبول مما يعكس الإمكانات الاقتصادية الكبيرة التي يمكن توجيهها نحو إعادة الإعمار طبعا لا يمكن إنكار التحديات الكبيرة التي قد تواجه السوريين عند عودتهم فبعد عشر سنوات أو أكثر في بلدان الاغتراب واللجوء تعلموا لغات جديدة وعايشوا مستويات متقدمة من الخدمات وقد يجدون صعوبة في التكيف مع واقع بلد توقف فيه الزمن لأكثر من عقد كما أن الأطفال الذين بالكاد يتحدثون اللغة العربية قد يحتاجون إلى دعم لغوي للاندماج مجددا للعودة إلى المدارس العربية مهما كانت التحديات تبقى عودة السوريين في الخارج إلى وطنهم فرصة استثنائية للنهوض بسورية من جديد وجعلها قادرة على مواكبة المستقبل بثقة وإصرار الأثر الاقتصادي على دول اللجوء في الوقت الذي ستستعيد فيه سورية بعضا من طاقاتها البشرية العائدة ستواجه دول اللجوء تحديات اقتصادية واجتماعية نتيجة الفراغ الذي ستتركه مغادرة آلاف السوريين ممن كانوا يشكلون جزءا مهما من القوى العاملة تشير الإحصائيات إلى بلوغ عدد العمال السوريين المسجلين رسميا نحو 100 ألف عامل في سوق العمل التركي ويصل عدد الذين يعملون بطرق غير نظامية إلى 500 ألف عامل معظمهم يتركزون في قطاعات الزراعة والصناعة في لبنان والأردن وبلدان أوروبية عديدة يشكل السوريون نسبة لا يستهان بها من القوى العاملة في المناطق الريفية مما ساهم في دعم الإنتاج المحلي في الزراعة والبناء بشكل كبير قد تؤدي مغادرة هذه العمالة إلى نقص حاد في القوى العاملة خاصة في القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على المهارات والخبرات السورية ما ينعكس سلبا على الإنتاجية ويؤدي إلى ارتفاع تكاليف العمالة المحلية في تلك البلدان وقد يدفع هذا الوضع بعض المصانع التركية للتفكير جديا لنقل أنشطتها إلى سورية للاستفادة من انخفاض تكاليف العمالة هناك أما في أوروبا فإن الوضع أكثر تعقيدا وفقا لمعهد الاقتصاد الألماني هناك حوالي 80 ألف سوري يعملون في ألمانيا أغلبهم في مهن تشهد نقصا في الكوادر مما ساعد على سد فجوات حيوية في سوق العمل الألماني يبرز من بينهم 5300 طبيب سوري يعززون قطاع الرعاية الصحية وفي هولندا يشير تقرير إلى وجود 3310 رواد أعمال سوريين في عام 2023 مما يجعل السوريين ثاني أكبر مجموعة بين رواد الأعمال الأجانب بعد الأتراك لم يقتصر دور السوريين في أوروبا على العمل فحسب بل يمثلون أيضا شريحة مهمة من الطلاب الجامعيين يدرس الآلاف منهم مجالات حيوية مثل الطب والهندسة وعلوم الكمبيوتر والاقتصاد مما يساهم في رفع مستويات المهارات الأكاديمية والمهنية في الدول الأوروبية إضافة إلى ذلك يساهمون بشكل كبير في الأنظمة الضريبية والاجتماعية مما يعزز الاقتصادات الأوروبية من خلال زيادة الاستهلاك المحلي وتنشيط الأسواق وقد يسبب غياب السوريين عن تلك الدول تراجعا ملموسا في النشاط الاقتصادي خاصة في القطاعات التي اعتمدت على استئجار المساكن والأنشطة التجارية والخدمات دول مثل تركيا ولبنان ستواجه تحديات حقيقية في الحفاظ على زخم اقتصادي كانت العمالة السورية جزءا أساسيا فيه لا بد من التأكيد على أن نجاح عملية عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم يعتمد على مجموعة من العوامل الحاسمة من بينها ضرورة توفير بيئة سياسية مستقرة وآمنة تضمن حقوق العائدين وإشراكهم في التخطيط واتخاذ القرارات المتعلقة بإعادة الإعمار والتنمية هذا النهج التشاركي يمكن أن يعزز من الشعور بالانتماء والمسؤولية بين العائدين ويساعد على تحقيق استقرار اجتماعي طويل الأمد كما يتطلب الأمر من الحكومة السورية المستقبلية تبني سياسات اقتصادية مرنة وتعزيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تعتبر رافعة للاقتصاد المحلي لم يكن السوريون يتخيلون أن يأتي يوم يرون فيه بلادهم بدون بشار الأسد بسبب هول ما تعرضوا له من عنف وانتهاكات ومجازر طاولت البشر والحجر على حد سواء فقد شهدوا صدمة العجز الدولي عن حمايتهم وعايشوا خيبة أمل كبيرة من مجتمع دولي اكتفى بموقف المتفرج بل كاد يمضي قدما نحو تعويم الأسد والاعتراف بشرعيته في ظل هذا اليأس حمل السوريون آمالهم وهاجروا إلى كل بلدان العالم بحثا عن حياة آمنة ومستقبل أفضل لهم ولأبنائهم لكن في 8 ديسمبر 2024 تغير الواقع فجأة وتحولت أحلام الاستقرار والحياة الجديدة مرة أخرى باتجاه سورية نحو وطنهم الذي أجبروا على مغادرته اليوم يطرح هذا التحول سؤالا جوهريا هل ستتاح الفرصة للسوريين للعودة والمشاركة في إعادة بناء وطنهم أم ستعرقل خطوات الاستقرار السياسي القادمة هذا الحلم أم ستسعى حكومات الدول المضيفة إلى التمسك بهم خشية حدوث آثار اقتصادية واجتماعية سلبية نتيجة مغادرتهم وبين الأمل في عودة كريمة وآمنة والتحديات الاقتصادية التي تواجهها دول اللجوء يبقى مصير الملايين من السوريين معلقا بمدى استعداد الأطراف المختلفة لتسهيل هذه العودة وجعلها خطوة نحو إعادة الحياة لسورية