الريح لا تسير من تحتي وسيد درويش يغني
لم أستيقظ على حدث بعينه؛ فقط ذلك الفراغ الخفيف في منتصف الصدر، كأن باباً عتيقاً انفتح في الداخل دون قصد، وترك خلفه تياراً من أسئلة مؤجَّلة. لم تكن الأسئلة جديدة، لكنها عادت بوضوح لم أعرفه من قبل، كأنها تهمس: تابع.. لم تنتهِ بعد.
ومن هذا الفراغ بدأت العودة إلى المقهى الذي لا ينتظر أحداً. لا الرياح تسير من تحتي، ولا الأمواج تتبع أثري، ولا مركب ينتظرني على باب مقهى وُلد لجلد الحداثة ولوم الذين يشكون همّاً لا يعرفه أحد سواهم.
لا الرياح تسير من تحتي، ولا الأمواج تُلاحقني، ولا مركب ينتظرني على باب مقهى صُنع خصيصى لنقد الحداثة والشكوى المستمرة من هَمٍّ خاص لا يمتّ للجماعة بصلة. هاربٌ من سلة الفرعونيّ الأول، منفلتٌ من حصار الإسكندر الأكبر، متجوّل بروحي بين عمرانه.
أتجوّل في عشرينيات الإسكندرية، وأسير بخُطا تبدو كأنها رسم لقدمين لا تتحركان، ولقلبٍ انتُزع من مكانه ودخل حانة، فوجد سيد درويش يتغزّل بالراقصة جليلة ويقول لها: خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب، ثم يستنشق دخانه ويتذمّر طرباً إذا ما مُنع عنه، ويشكو الهيام فيصيح: أنا هويت، ثم يغني للتحفجية، ويصحو من سكرته فيغني للمصري موقظاً إياه بـقوم يا مصري، وراوياً الحكايات بـأهو ده اللي صار.
ثم أقلق، بالرغم من أن الرياح لا تسير من تحتي، وأتساءل: ماذا بعد؟ وماذا لو حدث؟ ولماذا سيحدث؟ وما أهمية حدوث الشيء من عدمه؟ وأحلف بالله عزّ وجل أنها ليست عدمية، وليست بحثاً مضنياً عن الجدوى أو المعنى. ولو كان هناك معنى، فماذا يعني؟
وسيثور المراهق الفكري في داخلي على هذه الأسئلة، وهو الذي أعرفه جيداً؛ مراهق متفلسف، والعياذ بالله، يشعل سيجارة، وينظر بعمق كأنه محمود درويش في شبابه، ثم يقول بثقة: لا يهم أن تجد المعنى، فالمهم أن تصنعه!
لا يعلم أنني قد أوبّخه وأقول له: دثّر نفسك، وتخيّل أمراً يشغلك عن هذا البحث، ودر حول نفسك متصوفاً حتى يُغمى عليك، فتنام نوماً عميقاً.
لعل هؤلاء جميعاً -سيد، وبيرم، والمتنبي، ونجيب- ليسوا
ارسال الخبر الى: