الحكاية والمدن المدمرة
يوحي الخيال المرافق لصور الدمار التي تعرضها شاشات الأخبار أو وسائل التواصل الاجتماعي بما هو أشد وطأة من مشهد المدينة المدمّرة... ثمّة بشر كانوا هنا، قتلوا تحت الأنقاض أو حاولوا النجاة بأرواحهم وسط هذه الجحيم. لكل منهم قصة يحملها معه أينما ذهب، ولكل منهم ذاكرة له عن مدينته المدمّرة تشبه قنبلة موقوتة يمكنها الانفجار في أيّ لحظة، إن لم يُتأنَّ في تفكيك أسلاكها، ولا سبيل إلى ذلك سوى بجعلها عامةَ، ذاكرةً تخصّ الجميع وتروي جزءاً ممّا حدث أو قد يحدث لهم؛ فالدمار لا يقتل المدن فقط، بل يقتل الحكايات التي لم تُحكَ عنها بعد.
رواية تلك الحكايات وتفريغ الذاكرة يمكنه أن يعيد بناء المدن عبر الحكي عنها، أو عبر جعلها موضوع الكتابة. في كل دمار يظلّ ثمة شيء يعيدنا إلى الكتابة، الكتابة بحدّ ذاتها فعل بناء، كما تقول الكاتبة الكندية مارغريت آتوود، التي لم تختبر دماراً فعلياً في حياتها، لكن الكاتبة (والناشطة) التي هي عليها جعلتها تدرك ما يمكن للدمار فعله، وكيف يتمكّن بعضهم من مقاومة أثره السلبي عبر الحكي والكتابة.
لا يذكر التاريخ إلا لماماً نهاية مدن كاملة بسبب دمارها. على العكس، فالتجارب التاريخية في الحروب (القريبة والبعيدة) أضاءت جوانب مهمّة لإعادة بناد مدن دمّرتها الحروب تماماً. هيروشيما التي محتها قنبلة نووية عادت وازدهرت وأصبحت رمزاً للسلام العالمي. برلين التي دمّرتها الحرب وفتّتتها، أعادت نساؤها بناءها ما أن وضعت الحرب أوزارها، وسقط لاحقاً الجدار الذي فصل بين غربها وشرقها. برلين هي اليوم واحدة من أهم مدن أوروبا في التعايش الكوزموبوليتاني. دمّرت الحرب وارسو أيضاً، لكن سكّانها بعد الحرب أعادوها كما كانت باستخدام الحجارة نفسها التي تدمّرت. تلك مدن كبيرة تدمّرت بفعل حرب عالمية طاحنة. هناك مدن تدمّرت بفعل حروب أهلية مؤسفة. مدينة سراييفو التي تحوّلت اليوم مقصداً سياحياً وترفيهياً مثيراً، استطاعت التعالي على الجراح، واستعادت تعايش سكّانها (مسلمين، ومسيحيين أرثوذوكس وكاثوليك، ويهوداً). لكن هذا حدث بعد رواية سيرة المدينة من سكّانها، وإقرار كل منهم بما ارتكبه بحقّها. سامحتهم سراييفو،
ارسال الخبر الى: