التوتاليتارية صناعة غربية
كريم حداد* – وما يسطرون|
لم تولد التوتاليتارية من العدم، ولم تكن انحرافاً عرضياً في مسيرة الحداثة كما تحب أن تصوّرها الذاكرة الأوروبية، بل هي نتاج مباشر للعقل الغربي ذاته، بكل ما يحمله من نزعة إلى السيطرة والتوحيد والاختزال. إنها ليست كائناً غريباً غزا الغرب من الخارج، بل ثمرة داخلية لمشروعه الحضاري، تجلّت في السياسة كما في الاقتصاد، في التقنية كما في الفكر، في معسكرات الاعتقال كما في المصانع والمختبرات والشبكات الرقمية.
لقد أرادت الفلسفة الغربية منذ بدايتها أن تؤسس عالمًا عقلانيًا منظمًا يخضع لقوانين الفكر والقياس، فكان أن حوّلت هذا الطموح إلى أداة كونية للضبط والإخضاع. حين قال ديكارت إن الإنسان يجب أن يصير «سيدًا ومالكًا للطبيعة»، لم يكن يعلم أنه يفتح الطريق أمام نظام عالمي يحكمه مبدأ السيطرة الشاملة، حيث تُختزل الحياة كلها إلى أرقام، وتُدار المجتمعات كآلات. في هذا السياق، تصبح التوتاليتارية ليست نقيض الحداثة، بل وجهها الآخر: الوجه الذي يُظهر منطقها في أقصى تجلياته.
أولاً: الميتافيزيقا الغربية كأصل سياسي للتوتاليتارية
في قلب الميتافيزيقا الغربية يكمن هوس الوحدة والكلية. فمنذ أن وحّد أفلاطون بين الحقيقة والعقل، وجعل اللوغوس هو معيار الوجود، بدأ تاريخ طويل من القضاء على التعدد باسم الانسجام والنظام. العقل، الذي يفترض أنه أداة تحرير، أصبح مبدأ اختزال: يرفض الفوضى والغموض والتناقض، ويعمل على صهر المختلف في نموذج كلي متجانس.
هذا المنطق، الذي يبدو نظرياً في أصله، تحوّل في السياسة إلى نزعة توحيدية تبحث عن الدولة المطلقة والمجتمع المنضبط. فالمثالية التي حلمت بعالم عقلاني نظيف تحققت على الأرض في شكل أنظمة شمولية تسعى إلى إنتاج إنسان واحد، فكرة واحدة، وحقيقة واحدة. من جمهورية أفلاطون المثالية إلى دولة هيغل العقلانية إلى النظام البيروقراطي الحديث، الخطّ واحد: العقل يريد أن يحكم لا أن يفهم فقط.
إن التوتاليتارية، في جوهرها، هي تحقيق عملي للمثل الفلسفي الغربي: السيطرة الكاملة على الواقع باسم الحقيقة المطلقة. لذلك فإنها ليست انحرافاً عن الفلسفة، بل اكتمالها؛ وليست نقضاً للعقل، بل تحقق لمشيئته الهيمنية
ارسال الخبر الى: