البورخيسة لمحمود عبد الغني مكتبة تختزل مدينة

٥٣ مشاهدة
الأصل في الكتب أن يتناسل بعضها من بعض فالتفاعل مع كتاب قد يدفع بعض الناس إلى التأثر بخطابه فيتبنوا أفكارا فيه أو يعترضوا عليها أو يستمتعوا بها وهناك صنف من الناس هم النقاد لا يكتفون بقراءتها والاستمتاع بها بل ينصرفون بعد فهمها إلى محاورتها وتأويلها والتعليق عليها ومنهم من يهتم بتحويلها إلى لغة أخرى ليفيد منها قراء آخرون في لغة أجنبية غريبة وهؤلاء هم المترجمون ومنهم من يتخذها تعلة لاستلهام بعض ما ورد فيها لينتج كتابة أخرى حول تلك الكتب وأصحابها ليس نقدا وإنما إبداع وتلك هي الميزة التي لرواية البورخيسة لمؤلفها الكاتب المغربي محمود عبد الغني تؤكد الرواية الصادرة حديثا عن منشورات المتوسط انتماءها صراحة إلى الصنف الأخير من الكتب ذلك أن متنها يدل على تكونها من كتب أخرى ففيها من العناوين الروائية ما يفيد أنها تسترفد عوالمها ووقائعها من كتب سابقة مثل رواية مكتبة باريس لـ جانيت سكيزلين شارلز ومزرعة الحيوان لـ جورج أورويل وعاشق الكتب ورائحة الكتب لـ جيامبيرو موغيني ناهيك عن أن عنوانها مشتق من اسم المؤلف الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ثم إن شخصيتها الرئيسة البورخيسة تتماهى مع شخصية أوديل في مكتبة باريس فتتمنى قائلة لو عشت في زمن الحرب أتذوق طعم القذائف مثلما تذوقته أوديل في مكتبة باريس كما تشي الرواية في مواضع كثيرة باستلهامها أجواء وصورا سردية من روايات عالمية كبرى مثل البحث عن الزمن المفقود لـ مارسيل بروست عند قول البطلة مثلا جلست وتنهدت بكل ارتياح طلبت حليبا ساخنا وقطعة كرواسان وضعت قطعة صغيرة في فمي وبقيت أتلذذ بطعم الشوكولاطة تنظر بطلة الرواية إلى المكتبة بعيني بورخيس ويظهر هذا التفاعل بشكل أوضح في تبني البورخيسة روح الواقعية السحرية نصيا بشكل لا يمكن أن يخفى على المتمرس بالقراءة في صورة لطيفة هي التي عرفها جيرار جنيت بالتطريس Palimpsesto لتنم عن التأثر بتلك الأجواء التي يختلط فيها الواقع بالخيال وعبرت عنه الرواية الأميركولاتينية التي اهتمت بإدماج الأدبي في التصويري فتداخل فيها الحلمي مع الواقعي كما في تلك الصفحات الثلاث من التاسعة عشرة إلى الحادية والعشرين التي تحقق فيها للبورخيسة لقاء في الحلم مع بورخيس ويلمس ذلك بصورة أجلى في المقطع التالي حين عزفت لوقت طويل أحسست أن بإمكاني الطيران في فضاء الغرفة والريح التي كانت تهب في الخارج كانت تحملني إلى أعلى سقف بيتي أحسست كأنها تهب على المرج وتحرك أعشابه الطرية فردت يدي مثل جناحين بتلك الطريقة أكون أكثر خفة وأساعد الريح على حملي إلى أبعد مكان أغمضت عيني وحملتني إلى البحيرة المجاورة لبيتنا رأتني أمي وتبعتني تركض حافية القدمين وهي تصرخ باسمي استدرت وعدت حتى رأيت باحة البيت حيث كان يلهو إخوتي الثلاثة قبل أن يدعوهم أبي إلى الدخول ثم نزلت ببطء وأنا أحذر أن أنزل فوق رؤوسهم دخلت والدتي من الباب وهي تلهث وتصرخ وتلطم صدرها وهو مقطع يذكرنا برواية مئة سنة من العزلة لما حلقت عمة غابرييل غارسيا ماركيز عاليا ثم اختفت ويرسخ في ذهننا أن النصوص لا تأتي من عدم بل إنها تصدر عن التفاعل مع نصوص أخرى ويبدو هذا التأثر صريحا في اعترافات البطلة فهي لم تتردد في مخاطبتنا نحن قراءها قائلة انظروا ماذا صنعت الكتب بي أنا مثلي مثل الطبيعة المستيقظة من رقادها تيار من الحلم يجرف روحي لقد تحولت البورخيسة إلى كاتبة بسبب قراءتها الكتب البورخيسة هو عنوان الرواية وهو النعت الذي أطلقته البطلة سارة على نفسها بعد منام تراءى لها فيه بورخيس وعند استيقاظها قالت عن نفسها لقد أصبحت بورخيسة صغيرة رغم أنني لا أعرف منه غير الاسم تحكي البورخيسة وقائع حياتها بضمير المتكلم ولا يخفى أن توظيف هذا الضمير يرشح كل عمل روائي لكي يدنو من أدب الاعتراف ويعزز هذا الرأي لدينا أن البطلة تعترف قائلة كما أنني أؤمن بفن كتابة المذكرات ويؤكد ذلك مخاطبتها القراء اسمي تعرفونه واعترافاتها لهم بأمور حميمة تخصها كنت فتاة جميلة فتحولت إلى فتاة قبيحة كل إنسان لا تحيط به الكتب هو محروم من النعمة الفضاء المركزي للرواية هو المكتبة المكان الذي اعتبره بورخيس تجسيدا للفردوس لأنه تعرف فيه إلى العالم بأديانه وأساطيره وثقافاته من دون أن يخرج إليه وفيه عثر على السعادة أيضا ولم تتردد البورخيسة في النظر إلى هذا المكان بعيني بورخيس وأن تنتج خطابا على غرار الكاتب الأرجنتيني بقولها لا حرية للإنسان إذا لم يثبت جدارته أمام الكتب ويدعها تثبت جدارتها أمامه يكفي أن الكتب كلها تتحدث عن العدالة وكل مؤلف لا يتحدث عنها فهو مجرد وغد وكل إنسان لا تحيط به الكتب فهو محروم من النعمة لكن البورخيسة سارة بطلة الرواية بالإضافة إلى ربحها للسعادة ربحت المال من عملها كتبية وهو ما قد يستغربه الجميع لأن كل الخائضين في مجال الكتابة خاصة الناشرين والكتبيين يشيرون إلى الأزمة المالية التي يشهدها قطاعهم في الوقت الذي يواصلون فيه إصدار الكتب وهي تنبري لتلح على أنها بالعيش فيه وبـواسطته كسبت الكثير من التجربة والمال بل إنها كاشفت قارئها بأن فضاء المكتبة هو الكنز الذي عثرت عليه أنا شخصيا وأعود إليه بتشوق في الصباح حين أغادره في مساء اليوم الماضي فضاء المكتبة جعل البورخيسة تنطق بعبارات تتماهى مع بورخيس نفسه كقولها على غرار ما رأينا قبل قليل الكتب تضفي الشرعية على الكون على كل شيء في الكون ويكتشف القارئ أن هذه المكتبة فضاء يقع في مدينة الرباط التحقت البورخيسة بالمكتبة لأجل العمل بعد إجرائها مقابلة تقدمت إليها بمعية أربعة شبان آخرين وقد مكنتها شخصيتها الصريحة والعفوية من كسب ثقة ممتحنيها السيدة راوية مديرة المكتبة وزوجها بعد إجرائها امتحان الالتحاق بالمكتبة وتتضمن الرواية أيضا خطابا نسويا صريحا ينهض على وعي روائي يحمل رؤية متوازنة ومتنورة إلى طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تسود بين الرجل والمرأة ويبدو أن في اختيار محمود عبد الغني المرأة بطلة لروايته إفصاح عن موقف نسوي صريح على أساس فهم النسوية على أنها وفق تعريف إستيل فريدمان الاعتقاد بأن النساء والرجال لديهما بالتلازم القيمة نفسها ويجد خطاب النسوية مبرره في مشكل الهيمنة الذكورية التي تسعى إلى تأبيد خطاب وحيد هو خطاب الرجل اهتم الروائي بتقديم سارة لقارئه بصفتها امرأة قوية تتميز باجترائها وبرؤيتها لنفسها امرأة حرة وعاشقة للرجال وأنها على علم بمركز القوة في ذاتها إن نقطة الارتكاز في شخصيتي هي التصرف بحرية بأقصى ما يمكن من الحرية وعدم الاعتراف بالقيود وتؤمن بأنها بعملها في المكتبة ستكون لها فرصة للتزود بقوة جديدة إنها القوة التي سأكتسبها هذه المرة من الكتب تنجح البورخيسة في الحصول على تآزر نسوي لافت لكن نفسي عادت إلى الاطمئنان حين وجدت أن تعلق السيدة راوية وزهرة بي هو أدعى للخير منه إلى أي شيء آخر حيث إنها انتبهت إلى أنها تحولت سلطة داخل المكتبة أو بالأحرى إلى مخرجة لمسرحية حياة وأراقب الجمهور وأنا واقفة داخل المكتبة من وراء زجاج الواجهة كأنني مخرجة المسرحية الصغيرة المدهشة التي بلا ممثل ولا نص الرواية كتابة وكل كتابة هي حسب غادامير احتجاج على تدنيس ما ويبدو لي أن للتدنيس تجليات كثيرة في البورخيسة كالتدخين داخل المقهى أو الرجل العابس الإداري رمز المستبد ومجسد كراهية النساء والمضطهد للمنظفة العجوز باستمرار إنه في كل وقت ينادي على تلك المرأة العجوز لتنظيف مكتبه كأنه عملاق يلهو بجسد متلاش هي المسكينة التي تأتي إلى العمل كل يوم معنفة من طرف زوجها وقد دفعه حقده على البورخيسة أن نبش في تاريخها لما كانت تعمل في مكتبة دار الفراشة وهددها بقوله هذه الفتاة الطائشة أرادت أن تكون مثل بورخيس أنا فعلا سأجعلها مثل بورخيس سأطردها من المكتبة مثلما طرد بورخيس من مكتبة بلدية بوينوس آيرس وسأجعلها تبيع الدجاج والأرانب في الأسواق مثله البورخيسة رواية ممتعة بأدبيتها وفي الوقت ذاته تتميز بتوافرها على سمات الرواية السوداء أي البوليسية وتعد قارئها بأن جزءا ثانيا لها سيأتي لا محالة لأن نهايتها ظلت مفتوحة على احتمال استئنافها أكاديمي ومترجم من المغرب بطاقة محمود عبد الغني شاعر وكاتب ومترجم مغربي من مواليد عام 1967 يعمل أستاذا للأدب الحديث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط البورخيسة 2024 هي روايته السادسة بعد الهدية الأخيرة 2012 وأكتب إليك من دمشق 2016 ومعجم طنجة 2016 وأوسكار 2018 وفي الصيف والخريف معا 2019 من إصداراته الأخرى ترجمة لرواية مزرعة الحيوان 2013 لجورج أورويل وكتاب معجم المصطلحات الأساسية في الترجمة الأدبية 2017

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح