إيمانويل ماكرون لا يمين ولا يسار كيف وصلنا إلى هنا
١٠١ مشاهدة
في مساء التاسع من يونيو حزيران الحالي وجد الفرنسيون أنفسهم أمام لحظة تاريخية تماما بقدر ما هي مفاجئة وغير متوقعة ففيما كانت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي تصدر مع ما أسفرته عن حيازة اليمين المتطرف في فرنسا ثلث الأصوات في هذا البلد تصدر إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية البرلمان ودعوته لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في دورتين اليوم الأحد وفي 7 يوليو تموز المقبل عناوين الحدث السياسي ماذا يفعل بحق الجحيم وهل هو مجنون وغيرها من العبارات كانت تتداول في غرف الأخبار التلفزيونية خلال البث المباشر لخطاب رئيس الدولة يومها لدى إعلانه عن انتخابات فرنسا المبكرة دعا إيمانويل ماكرون إلى انتخابات عامة مبكرة في جولتين وربما في اللحظة ذاتها ومتكئة على نتائج الانتخابات الأوروبية بدأت زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف مارين لوبان الاستعداد لما تعتقد أنها فرصتها الثمينة للفوز أخيرا في الانتخابات وهي أخبرت الجميع أن ساعدها الأيمن رئيس التجمع الوطني جوردان بارديلا سيصبح رئيسا للحكومة فور فوز حزبها في انتخابات فرنسا التشريعية المبكرة ما الذي يدور في رأس إيمانويل ماكرون لا أحد يعرف حقا ما الذي يدور في رأس ماكرون لكنه يوحي بأن لديه استراتيجية يقول شخص من الدائرة القريبة للرئيس الفرنسي مضيفا لكن في الواقع لا أحد يعرف حقا ما هي هذه الاستراتيجية وكل شخص لديه نظريته الخاصة ووفق المصدر نفسه فإن مستشاري إيمانويل ماكرون يرددون أن الأخير وفيما كان يعلن حل الجمعية الوطنية كان مقتنعا تماما بأنه سيحقق فوزا نظيفا في انتخابات البرلمان المقبل يعتقد ماكرون أن غالبية الفرنسيين الذين يحملون ذاكرة الماضي الفاشي سيرغبون في منع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة يعلم ماكرون أن الأحزاب اليسارية في البلاد منقسمة واليمين التقليدي ضعيف وهو يعتقد أن غالبية الشعب الفرنسي الذي يحمل ذاكرة الماضي الفاشي سيرغب في منع اليمين المتطرف وريث هذا الماضي المظلم من الوصول إلى السلطة في انتخابات فرنسا مثلما درجت العادة منذ عام 2002 يوم وصل جان ماري لوبان للمرة الأولى إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة فاتحد ضده كل الطيف السياسي الجمهوري بيمينه ويساره وانتخب جاك شيراك لمنع وصول رمز اليمين المتطرف إلى الإليزيه انتخابات فرنسا وعودة الجبهة الشعبية في مساء يوم حل الجمعية الوطنية خرج قادة اليسار الفرنسي عن صمتهم مبكرا ولم يستسلموا لنتائجهم غير الجيدة في الانتخابات الأوروبية أجريت من 6 إلى 9 يونيو بدأ النائب عن حزب فرنسا الأبية أو فرنسا غير الخاضعة الذي يمثل اليسار الراديكالي بقيادة جان لوك ميلانشون فرانسوا روفان التعبئة في بث تلفزيوني مباشر قائلا إن اليمين المتطرف على أعتاب السلطة علينا أن نتحد في الانتخابات الأوروبية انقسمت الأحزاب اليسارية إلى شيوعيين واشتراكيين وراديكاليين وإيكولوجيين أنصار البيئة ما انعكس تفتتا لأصواتهم لكن في ذلك المساء دعا العديد منهم إلى إنشاء جبهة شعبية موحدة جديدة لدخول سباق انتخابات فرنسا المبكرة في فرنسا لا يزال هذا الاسم الكبير القادم من الأمس يتردد صداه في ذاكرة اليوم في عام 1936 ومع خطر الفاشية الذي كان يتهدد فرنسا اتحدت الأحزاب اليسارية محققة فوزا صعبا لكنه كان كافيا في الانتخابات التشريعية لحصد أكثر من نصف مقاعد البرلمان نجحت هذه الجبهة الشعبية في 1936 في توحيد اليسار المجزأ من الشيوعيين إلى الاشتراكيين الديمقراطيين على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية الكبيرة في ذلك الوقت كما هو الحال الآن كانت الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في أوجها وكانت أوروبا حينها مريضة بصعود الفاشية من خلال فرانسيسكو فرانكو و بينيتو موسوليني وأدولف هتلر كما هو الحال اليوم مع عودة الراديكاليين المحافظين من إيطاليا إلى المجر في فرنسا 2024 أعاد الناخبون اليساريون اكتشاف ذاكرة الجبهة الشعبية غريزيا وخلافا لكل التوقعات شكلت الأحزاب اليسارية تحالفا للانتخابات في غضون أربعة أيام وتقدمت على حركة إيمانويل ماكرون حزب النهضة وحلفاؤه في استطلاعات الرأي لتزاحم اليمين المتطرف بعدما كان متصدرا وحيدا فيما بات الرئيس الفرنسي الشاب لا يحظى بأكثر من 15 من توقعات التصويت ألم يتوقع إيمانويل ماكرون ارتدادات التاريخ هذه لا شك في أن رئيس الجمهورية الفرنسي لا يحتفظ بإرث الثقافة السياسية الفرنسية ولعل هذا هو السبب الرئيسي لعزلته الحالية فمنذ بداية رئاسته في عام 2017 فشل ماكرون في فهم أسس الثقافة الديمقراطية الفرنسية وموجهها الأساسي الشارع فمن هذا الشارع ولدت الجمهورية والشارع في فرنسا جزء من الديمقراطية مثل صندوق الاقتراع بل يكاد يتقدم عليه ومن خلال الشارع يتم التعبير عن الغضب وتحقيق المكاسب التقدمية الاجتماعية أكثر مما هو الحال خلال الانتخابات بالفعل لطالما حاول إيمانويل ماكرون تفريق الشارع وفي الوقت الذي كانت تشهد فيه فرنسا حركة السترات الصفراء والحركة المناهضة لإصلاح نظام التقاعد لم يتخل رئيس الجمهورية عن سياساته النيوليبرالية هو لا يرضخ للشارع بل يتحداه ويقمعه ويترك الحركة الاجتماعية تموت وكأن إنكار الثقافة السياسية سيغير ميزان القوى بين الشعب والسلطة فشل ماكرون منذ 2017 في فهم أسس الثقافة الديمقراطية الفرنسية وموجهها الأساسي وهو الشارع لكن ليس بإمكانك أن تمحو عقودا من الثقافة السياسية مثلما تقمع تظاهرة في فرنسا منذ الثورة الفرنسية كان أحد أسس هذه الثقافة هو الاعتقاد بأن الاستبداد لا يتعثر إلا عندما يواجه بالاتحاد الشعبي لقد جاءت ولادة فكرة الجمهورية ذاتها من هذه الثنائية هذه المواجهة بين الاتحاد والاستبداد على الجانب الآخر من التاريخ السياسي لا يزال اليمين المتطرف يجسد هذا الاستبداد لم يتغير وجهه حقا منذ نظام فيشي فهو لا يزال محافظا ومعاديا للأجانب وقد حل العربي محل اليهودي عدوا من الداخل في حملاته بينما يسمح لمعاداة السامية القديمة بالازدهار مجددا في صفوفه لا يزال إرثه موجودا ويتكيف ببساطة مع تعصب العصر لكن خطأ ماكرون في هذه القصة هو أنه ليس وريثا لشيء هو وحركته السياسية التي ولدت في عام 2017 وطالما ادعى أنها لا من اليمين ولا من اليسار في السلطة ادعى إيمانويل ماكرون أنه يدير فرنسا مثل شركة أعمال تجارية من دون أي توجه سياسي كبير وغالبا ما تكون مشاريع قوانينه مدفوعة من قبل خبراء التواصل أكثر من أصحاب الأيديولوجيات قليل من الناس في فرنسا قادرون على تحديد عموده السياسي الحقيقي بوضوح بخلاف النيوليبرالية المتطرفة التي تلبس قشرة من الحداثة لم يعد لإيمانويل ماكرون أي مكان حقيقي في أي تسلسل زمني كبير للأفكار والآن بعد ارتداد التاريخ لم يبق لماكرون سوى نفسه دروس من التاريخ من ناحيتها لم تغفل الأحزاب اليسارية الفرنسية عن أن تاريخ الحركات الاجتماعية يترك آثاره التي لا تمحى بسهولة وليس في فرنسا فقط فلطالما كانت الثقافات النضالية اليسارية معولمة وعابرة للحدود والتاريخ في الثورات الجماهيرية هناك إلهامات تكاد تكون غريزية وهذا ما يفسر سبب تشابه شعار الثورة التونسية عام 2011 خبز حرية عدالة اجتماعية مع شعار الجبهة الشعبية في فرنسا عام 1936 خبز سلام حرية مثل غريزة الجماهير للتقدم في مواجهة الاستبداد لا مفر من هذه الغرائز أو من ارتدادات التاريخ وهذا جزء من سبب شعبية جبهة اليسار اليوم في مواجهة اليمين المتطرف أحدث الاستطلاعات تعطي الأولى أكثر من 29 من نيات التصويت بينما تتقدم الجبهة اليمينية المتطرفة بما يناهز 35 يفسر ذلك لماذا يجد إيمانويل ماكرون نفسه بعدما أفرغ السياسة من السياسة عالقا في انتخابات فرنسا بين كتلتين أيديولوجيتين رئيسيتين اليسار الفرنسا انقسم بعد عام 1936 على القضايا الدولية أما اليوم فهو منقسم على قضيتي أوكرانيا وفلسطين ومع ذلك يجب توخي الحذر من قراءة الماضي باعتباره نبوءة الحاضر فليس هناك ما يضمن إمساك الجبهة الشعبية بالسلطة غدا تاريخيا كان لدى اليسار مشروع ربط الوعي بالذاكرة من أجل التغلب على قدرية المحافظين بأفكار جديدة لاعتقادهم بأن التاريخ شيء لا يتكرر بل يكتب ولكن إذا لم يترك التاريخ وراءه تنبؤات فإنه على الأقل يترك وراءه تحذيرات في عام 1936 عندما وصل اليسار إلى السلطة في انتخابات فرنسا وروج تقدما اجتماعيا تاريخيا عطلات مدفوعة الأجر وساعات عمل أقصر وما إلى ذلك انقسم اليسار بنفس السرعة التي اتحد فيها وشكل جزء معتدل من الجبهة الشعبية تحالفا مع حكومة أكثر يمينية انقسم اليسار بالأمس على القضايا الدولية دعم الجمهوريين الإسبان أما اليوم فاليسار منقسم على قضيتي أوكرانيا وفلسطين إذا كانت الجبهة الشعبية تريد حقا منع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة فعليها ألا ترى في التاريخ مجرد مرآة للحاضر بل عليها أن تتعلم منه أيضا