إبادة غزة في مذكرات درور ميشاني عن الحضيض الاستعماري الإسرائيلي
23 مشاهدة
ضخم يوم السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023 لإخفاء إيلام جرائم احتلال فلسطين حيث دارت لعبة خطابهم على تهويل دور الضحية تناسيا لعقود طويلة من العدوان الغاشم وتجاهلا لأي حق في مقاومة الإبادة المتواصلة فقد استند خطابهم هذا على دعوى براءة سكان غلاف غزة ولا سيما من لم تتلطخ أيديهم بالدماء وعلى طبيعتهم المدنية مع أن عبارة الغلاف التي يتذرعون بها هي نفسها صورة فاضحة لمحاصرة غزة وإذلال أهلها بعد تهجيرهم صوت الروائي الإسرائيلي درور ميشاني الذي أصدر مؤخرا كتاب Au ras du sol ونقل مباشرة من العبرية إلى الفرنسية عن دار غاليمار بترجمة لورانس ساندروفيتش ثم إلى الألمانية ثم نشر بعدها في لغته الأصلية مختلف عن الأصوات التي هولت دور الضحية في فجر السابع من أكتوبر كان ميشاني في زيارة إلى فرنسا للمشاركة في لقاء أدبي فوجئ كما فوجئ العالم بأسره بالهجوم الخاطف فكتب مباشرة مقالا صحافيا دعا فيه إلى التفاوض وعدم الانجرار إلى أي حرب لأنها لن تؤدي إلا إلى الدمار والتقتيل وهذا عين ما حصل يوميات تقع في مفترق الطرق بين التخييل والواقعية والتأمل وإثر عودته إلى بيته انبرى يكتب يومياته التي عنونها بما يعني حرفيا قريبا من السطح ويمكن ترجمته بعبارة في الحضيض أو أسفل السافلين كناية عن السقوط الأخلاقي الذي تردت إليه إسرائيل في حربها الانتقامية ضد شعب غزة الأعزل ثم عن تدني المعنويات العامة بسببها ينتمي هذا النص المؤلف من 176 صفحة إلى جنس المذكرات أو اليوميات التي تقع في مفترق الطرق بين التخييل والواقعية والتأمل مستقصيا مشاعر رجل يعيش مع زوجته الكاثوليكية البولونية وابنتهما منذ أشهر العدوان الأولى حتى إبريل نيسان 2024 مصورا فيه أحاسيسه المتناقضة وهو يتابع أخبار القصف والموت بحجة تحرير المحتجزين وهو ما جعله يتردى إلى الحضيض بعدما حرمته القرارات السياسية والعسكرية من حرية الكتابة فارضة طوقا شديدا على أي صوت يعارض الحرب أو ينتقدها وخلال أشهر الانتظار هذه كان الكاتب يطرح أسئلة فلسفية حول القضايا الوجودية كالشر والموت والحرية والكوارث مستلهما من قراءاته في الأدب العالمي لتغذية هذه التأملات مثل إلياذة هوميروس وكتابات ناتاليا غنزبورغ وإيتالو كالفينو وغيرهم من الكتاب المعاصرين في حين كان آلاف الضحايا يسقطون في الجهة الأخرى خلال أبشع كارثة راهنة وللتعبير عن استيائه العارم لجأ ميشاني إلى الأدب وأسلوبه الحر الذي يسمح باستجلاء التعقيد النفسي الذي أسفرت عنه هذه الحرب إذ تتيح آليات النقل الروائي الواقعي التي تنشط في جنس اليوميات باستقصاء خبايا النفس وسبر أغوارها هذه النفس البشرية في اتساعها وتشعبها وارتفاعها عن قيود الهوية واللغة والدين حين تشاهد دمارا لا يمكن لأي ضمير أن يقبله معارضة شرسة للحرب وتشكيك فيها انطلاقا من القيم الإنسانية يدور نص ميشاني في منطقة صعبة يحدها جحيمان نقد هجوم السابع من أكتوبر من وجهة نظر حقوق الإنسان ورفض بشاعة التدمير الإسرائيلي لغزة وبين هذا وذاك كان ميشاني يعرض مشاهد من تجربته الشخصية مع أسرته التي شكلت ثيمة رئيسة في هذه اليوميات بما تنطوي عليه من قيم مشتركة فصارت بمثابة درع يحتمي به في محاولة لإلحاق نصه بالأفق الإنساني الذي لا يبرر القتل الوحشي الذي ترتكبه إسرائيل بحق الغزيين كما يفعل ساستها ومنظروها العنصريون تابع ميشاني يوميات الحرب لحظة بلحظة وجاء كلامه معارضة شرسة للحرب وتشكيكا في جدواها إذ لم تخلف سوى دمار قطاع غزة وإبادة شعب أعزل في ثنايا هذه اليوميات عاد إلى تجاربه الخاصة عبر تقنية الاسترجاع ومنها رفضه للخدمة العسكرية سنة 1990 لما رأى فيها من فظاعات شاهدها في سجن إسرائيلي اكتظ فيه الفلسطينيون وقد كلف بحراسته شكل هذا المشهد المشين بداية وعيه بما يعيشه هذا الشعب من معاناة على أن هذا المشهد غيض من مآس لامتناهية تعاش كل لحظة أمام صمت العالم صمت أدانه الكاتب على أمل أن يتحول أدب اليوميات إلى سلاح يدافع به عن مبدأ السلام أو إلى ملجأ يهرع إليه تحت وطأة الأخبار القاتلة وإلى سبيل جمالي للتفكير في هذا الواقع الموحش وتجاوزه أراده محاولة لتشريح عبثية الحرب في عيون القارئ الإسرائيلي الذي احتل وعيه هو الآخر فسعى لتحريره من الاضطهاد الذي بات يتعرض له بسبب رقابة السلطات العسكرية والسياسية الإسرائيلية هكذا كان كتابه صوتا يرتفع بين أصوات القصف التي لم تتوقف منذ شهور ليعري فظاعة حرب الانتقام التي صارت بلا نهاية بعدما خلفت زهاء خمسين ألف ضحية جلهم من الأطفال والنساء والعجزة ونحن نذكر بهذا الرقم حتى لا ننسى وحتى نحقق معنى الضحية والتضحية إذ كان من الأجدى في رأيه أن يدخل الجميع في مفاوضات منذ الثامن من أكتوبر 2023 لحل الصراع ولكم أثبت الواقع أن المفاوضات لم تكن سوى حجة لمواصلة الاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية والتنكيل بشعبها دون توقف ومنذ عقود مثل هذا النص قد يربك القارئ العربي الذي امتلأ وجدانه بصور فظاعات حرب غزة حتى لم يعد قادرا على الاستماع لأي صوت إسرائيلي وإن كان ناقدا لهذه الحرب ورافضا لها لذا تتطلب قراءته جهدا ما للإصاخة إلى هذه النبرة الخافتة التي تعاني بدورها من شظايا معركة ثانية تشنها سلطات إسرائيل ضد مواطنيها مانعة عليهم حق التفكير والنقد باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس