وهم الإعمار ديكور يسقط مع أول قطرة مطر
كلُّ شتاء يُعيد لنا المشهد نفسه، أوّل قطرة مطر كفيلة بأن تكشف الكذبة التي بُنيت عليها دعاية إعادة الإعمار طوال أشهر الصيف. في شرق ليبيا، كما في غربها، طرقٌ تتحوّل إلى أنهار، أحياء تُغرقها برك الصرف الصحي، أوهام تتلاشى مع الغيوم. كلُّ ما رَوّجت له الرواية الرسمية على أنّه نهضة عمرانية يتبدّد في لحظات.
لم أفهم يوماً معنى الاحتفال بملعب كرة القدم، أو فندق فارهٍ، أو كوبري بشع في بلدٍ عاجز عن توفير شبكة صرف صحي، أو كهرباء مستقرّة، أو إنترنت محترم، أو حتى طرق خالية من الحُفر، عوضاً عن المستشفيات والمدارس والجامعات. المفارقة أنّ هذه المشاريع لا تُقدَّم كإنجاز خدمي يستفيد منه الناس، بل كدعاية للمسؤول وكورقة ابتزاز ومساومة. كلُّ طرفٍ من أطراف النزاع يريدك أن تنسى القمع والفساد والظلم والجرائم المُستمرّة، مقابل رصف طريق أو ترميم مسجد أو صيانة مطار مُتهالك. وهذا بالضبط ما يميّز الدول المُستقرّة عن حالتنا: هناك تأتي المشاريع وفق خطّة وتخطيط، أما هنا فهي شكل آخر من أشكال الصراع على السلطة.
نحن، أبناء الطبقة المطحونة، لا يعنينا فندق خمس نجوم لا نستطيع دفع ثمن قهوة في بهوه، ولا ملعب لا نستطيع دفع ثمن تذكرة حضور مباراة فيه، بينما مدارسنا بلا كتب ومستشفياتنا بلا أسِرّة. لا أرى قيمة لطلاء واجهة عمارات مُتهالكة بينما قواعدها مليئة بالشقوق. كذلك لا أرى منطقًا في أن تُطلب مني الطاعة والرضا مقابل عمليات تجميل فاشلة، تخفي وراءها بشاعة الفساد والظلم. لا أحد يملك الحقّ في مساومة الناس على حقّهم في نقد الرداءة، وحقهّم في مساءلة الفاسدين، وحقّهم في رفض أن يتحوّل الوطن إلى معرض لمشاريع تافهة لا تخدم إلا الطبقة المخملية، بينما البنية التحتية منهارة، فيما يتفرّج الكادحون من بعيد، ينتظرون في طوابير لا متناهية للحصول على الخبز أو البنزين أو أسطوانات غاز تقيهم برد الشتاء.
لا يمكن أن تكون هناك نهضة عندما تُقَيَّد الرقاب بالسلاسل والأقفال
إعادة الإعمار الحقيقية تبدأ من الإنسان، من التعليم الذي دُمِّر على مدى عقود،
ارسال الخبر الى: