دخلت مصر في علاقة طويلة ومعقدة مع صندوق النقد الدولي حيث أصبحت واحدة من أكبر المقترضين من هذه المؤسسة الدولية تأتي في المرتبة الثانية ولا يسبقها إلا الأرجنتين تتجلى هذه العلاقة في عدة اتفاقيات تمويلية تمت بين الطرفين على مدار السنوات خاصة بعد ثورة 2011 التي أدت إلى تغييرات جذرية في النظام الاقتصادي والسياسي في البلاد وفي حين أن الصندوق يقول إن هذه الاتفاقيات تهدف إلى دعم استقرار الاقتصاد المصري وتحفيز النمو يثار جدل واسع حول ما إذا كانت هذه الشراكة تخدم مصلحة الاقتصاد الوطني حقا أم أنها تعمق التبعية المالية لمصر وتعزز نفوذ صندوق النقد على قراراتها الاقتصادية ومنذ أن وقعت مصر أول اتفاقية قرض رئيسية مع صندوق النقد الدولي في أكتوبر عام 2016 بدأت الحكومة المصرية في تنفيذ سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي شملت تخفيض دعم الطاقة ورفع الدعم عن بعض السلع الأساسية وتحرير سعر صرف الجنيه المصري وزيادة الضرائب كان الهدف من هذه الخطوات تعزيز الاستقرار المالي وجذب الاستثمارات الأجنبية مع توفير بيئة اقتصادية أكثر شفافية ومرونة وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات ساهمت في تحسين معدلات النمو الاقتصادي العام إلا أنها تركت آثارا سلبية على مستوى معيشة المواطن العادي إذ أدت إلى ارتفاع تكلفة المعيشة وزيادة التضخم مما أثر مباشرة على القدرة الشرائية للأسر ذات الدخل المحدود وتعد برامج التقشف المالي واحدة من أبرز الشروط التي يفرضها صندوق النقد على الدول المقترضة ففي حالة مصر كانت هناك مطالبات مستمرة بضرورة تخفيض العجز المالي والسيطرة على الدين العام واستجابت الحكومة لهذه المطالبات من خلال تقليص الإنفاق الحكومي والتوسع في فرض الضرائب وبيع بعض الأصول المملوكة للدولة المصرية ومع ذلك يرى بعضهم أن هذه السياسات تعرقل جهود الدولة في تحسين جودة الخدمات العامة مثل التعليم والصحة وتضع قيودا على قدرة الحكومة على دعم الفئات الفقيرة وتسمح بالتخلي عن الأصول القيمة بأسعار بخسة ويشير تكرار عمليات الاقتراض إلى أن النموذج الحالي للعلاقة بين صندوق النقد ومصر لا يؤدي إلى تقليل الحاجة للمساعدة الدولية بل يعزز الاعتماد عليها ومع كل اتفاقية جديدة تزداد الالتزامات المالية على مصر وتتراكم أعباء الديون مما يعقد الوضع الاقتصادي ويزيد من صعوبة تحقيق استقلال مالي حقيقي والأسبوع الماضي وفي إطار نقل وسائل الإعلام لتطورات مفاوضات صندوق النقد مع الحكومة المصرية أشارت بعض الصحف غير الحكومية إلى ممثل الصندوق المقيم في مصر واسمه أليكس سيغورا في وضع ذكرنا بحالة المندوب السامي البريطاني وقت الاحتلال البريطاني لمصر الذي كان لديه صلاحيات التدخل في القرارات الحكومية المصرية وتوجيهها وفقا للمصالح البريطانية وكان يملك صلاحية إقالة المسؤولين المصريين أو تعيينهم وكان أيضا يشرف على قناة السويس التي كانت تعتبر شريانا حيويا للتجارة العالمية والإمبراطورية البريطانية وفي كتابه الرائع الدين أول 5000 عام يجادل ديفيد غريبر بأن تدخل صندوق النقد الدولي غالبا ما يعزز أنظمة الدين والسيطرة بدلا من تشجيعه للتنمية الاقتصادية الحقيقية أو الاستقلال المالي وهو نفس المعنى تقريبا الذي أشار إليه محمود محيي الدين قبل تركه منصبه مديرا تنفيذيا في صندوق النقد بأيام في البودكاست الشهير مع رباب المهدي وفقا لغريبر أستاذ الاقتصاد السابق في جامعة ييل وكلية لندن للاقتصاد فإن ممثلي صندوق النقد الدولي المقيمين في الدول المقترضة من الصندوق يتمتعون بسلطة كبيرة على السياسات الاقتصادية وغالبا ما تفوق تلك التي لدى المسؤولين المنتخبين أو المعينين من رئيس الدولة في الدول غير الديمقراطية ويقول غريبر إن هؤلاء الممثلون يعملون وسطاء بين صندوق النقد الدولي والدولة المدينة ويقومون بفرض شروط القروض المعروفة بـالشروط المسبقة وتتطلب هذه الشروط غالبا تدابير تقشفية مثل خفض الإنفاق العام وتقليص الإعانات وخصخصة المؤسسات الحكومية الهدف المعلن من تلك الشروط هو استقرار الاقتصاد وضمان قدرة الدولة المثقلة بالديون على سداد ديونها لكن غريبر يرى أن هذه التدابير تفضل سداد الديون على حساب رفاهية السكان ما يحول الاقتصاد أساسا إلى آلة لخدمة الدائنين الأجانب وذهب غريبر بعيدا في اتهاماته المؤسسة الدولية إذ رأى أن ممثلي صندوق النقد الدولي المقيمين يسهمون في فرض تسلسل هرمي يعزز اعتماد الدول المدينة على الدول الثرية الدائنة ومن خلال إلزام الدول بالتقيد بالتقشف والإصلاحات النيوليبرالية يخلق صندوق النقد الدولي سيناريو يصبح فيه البلد عالقا في دورات من الاقتراض والتقشف وسداد الديون مع مساحة محدودة لمتابعة سياسات قد تقود إلى نمو طويل الأمد أو استقلال اقتصادي كما يقول أستاذ الاقتصاد الشهير ويرى غريبر أن دور ممثلي صندوق النقد الدولي هو فرض تعديلات هيكلية تجعل البلدان أكثر جذبا لرأس المال العالمي لكنها أقل استجابة لاحتياجاتها المحلية مما يؤدي إلى ما يسميه الاستعمار الاقتصادي هذا الممثل المقيم يضمن أساسا أن تتبع الدولة المدينة مسارا يخدم مصالح الدائنين الدوليين أكثر من مصالح مواطنيها يقول غريبر عن صندوق النقد الدولي إنه يؤدي دورا لا يرفع الدول من الفقر وإنما يعمقه في أغلب الأحوال عن طريق الحفاظ على نظام يكون فيه الدين وسيلة للسيطرة وعبئا يبقي الدول المدينة عالقة في دورة من الاعتماد على القروض الخارجية فهل ستستمر مصر في النهج الحالي من الالتزام بتلبية متطلبات الصندوق والسير على المسار الذي رسمه لنا أم ستسعى إلى إيجاد بدائل تتيح لها تحقيق نمو اقتصادي مستدام ومستقل الحقيقة أن الإجابة تعتمد كثيرا على مدى صدق رغبة الحكومة المصرية في تطوير سياسات اقتصادية تتماشى مع احتياجات الشعب وتقلل من الاعتماد على القروض الدولية وتوفر لمواطنيها حياة كريمة بعيدا عن شروط الديون والتبعية المالية