وندمت ندامة الكسعي هذا الأعرابي الذي كسر قوس نشابه بعد ظنه في ليل أغبش أنه أخطأ في صيد حمير الوحش وأنا أيضا أخطأت التقدير ذات نهار ربيعي مشمس وذلك حين عدت إلى شراء رواية وداعا يا أفاميا من بائع الكتب المستعملة الذي يفرش كتبه على رصيف فندق الأمير في حلب الشهباء ولم أجد للرواية أثرا وأنا الذي رأيتها في صندوق من الكرتون مرصوص بالكتب سألت البائع أين رواية وداعا يا أفاميا التي كانت هنا قبل ساعتين ابتسم وحدق في وجهي مستغربا ثم قال ببساطة بيعت فأسقط في يدي نسخة وحيدة طارت من يدي كما طار حمام محمود درويش في رائعته يطير الحمام شرد الحمام كما شردت روايتي التي فرطت فيها عندما كانت في متناول يدي وها قد مضت الأعوام الطوال على الحادثة وما زلت أشعر بغصة في الحلق وأندم أشد من ندامة الكسعي لأنني فرطت في الرواية أنا الذي كنت أقلب صفحاتها الجميلة وخير جليس في الزمان كتاب من هو الكسعي في الجواب هو محارب بن قيس الكسعي ينسب إلى كسع وهي قبيلة من اليمن ويذكر من خبره أنه كان يرعى إبله في البر فرأى شجيرة يصلح عودها للسهام فسقاها من قربته وظل يداوم على سقايتها حتى استوى عودها فصنع منها قوسا وخمسة أسهم ثم أتى أرضا صخرية تكثر فيها حمير الوحش فكمن في الفجر في ركن حريز منتظرا قدومها وحين رأى سرب حمير الوحش وتر سهما ورمى فقدح السهم في الصخر فظن الكسعي أن السهم قد خاب فانتظر ثم وتر سهما آخر ورمى فقدح السهم شررا في الصخر مرة أخرى وصنع الأمر نفسه بسهامه الخمسة فاستبد به الغضب وهوى بقوسه على الصخر حتى كسر القوس تكسيرا غير أنه بعدما خرج من مكمنه وقد طلعت الشمس وجد خمسة من حمير الوحش قد أصابتها السهام الخمس فعلم أن سهامه كانت تخترق كل الطريدة ثم تقدح في الصخر فندم على كسر قوسه وقال نادما حيث لا ينفع الندم ندمت ندامة لو أن نفسي تطاوعني إذا لقطعت خمسي تبين لي سفاه الرأي مني لعمر أبيك حين كسرت قوسي سارت ندامته مثلا لكل نادم فقال الفرزدق لما طلق امرأته نوار وندم ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار وكانت جنتي فخرجت منها كآدم حين لج به الضرار النسخة الأنيقة من رواية وداعا يا أفاميا والمجلدة بعناية حرفي ماهر بحواش مذهبة والتي كانت بين يدي صادرة في دمشق عام 1996 وكنت أقلب صفحاتها على مهل لألمح فيها وجه بطلتها جود تلك الصبية البدوية الرائعة الجمال ومرت الأعوام ولم أصادف الرواية من جديد في أي مكان وكنت أحن إلى جود كلما تذكرت الرواية أو قرأت عنها واستمر هذا حتى صيف عام 2014 حيث وجدت أختها التوءم في المركز الثقافي في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية فرحت بها وقرأتها على مهل لأنني كنت موظفا مؤقتا في مكتبة المركز الثقافي لمدة ستة أشهر حرثت فيها كتب هذه المكتبة العريقة التي زادت عن 33 ألف كتاب حرثا عميقا مؤلف رواية وداعا يا أفاميا هو مهندس في الكيمياء والمعادن ودكتور في العلوم الفيزيائية سوري من مدينة حلب اسمه شكيب الجابري بن مراد بن مفتي حلب عبد القادر لطفي الجابري الحسيني ولد في حلب سنة 1912 وتوفي في الرياض السعودية عام 1996 وهو من أسرة عريقة مشهورة بالوطنية والثراء وقد عمل العديد من أفرادها في السياسة وشغل بعضهم مراكز هامة أبرزهم عمه سعد الله الجابري أحببت أن أقرأ الرواية من جديد فبحثت عن نسخة إلكترونية في الشبكة العنكبوتية فلم أجد لها أثرا وبطلة الرواية جود ما زالت تلاحقني وتلح في الحضور في يومياتي هنا في المرتفعات الجبلية في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة حيث أسكن مع أسرتي منذ سبع سنوات نازحا من مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية ماذا أفعل ها أنا أذهب إلى الصديق العزيز الكاتب والروائي السوري فيصل خرتش الذي يكتب في مقال منشور في ضفة ثالثة في العربي الجديد عن رواية شكيب الجابري إننا أمام نص يدل على ثقافة عربية عميقة يتبدى كل ذلك من خلال بعثة أوروبية موجودة في أفاميا في سهل الغاب على تخوم مدينة حماة وتعمل معهم جود الفتاة البدوية التي يصف جمالها شكلا ومضمونا إننا أمام فتاة تبارك الخلاق عندما أعطاها هذا الحسن وهذه البراءة يغويها أحد رجال البعثة وفي لحظة طيش تستسلم له وعندما يتنكر لعمله تضطر إلى الهرب خوفا من انتقام العشيرة تهرب إلى الغاب حيث تلتقي مهندسا وهو شاب سوري كان يعمل في التنقيب عن المعادن أحبها وأحبته وكانت الخاتمة بالزواج هذا الصراع الذي دار في العمل الروائي الذي تجسد بين جود وأحد أفراد البعثة صراع بين الشرق والغرب بين البداوة والحضارة صنعه الكاتب في روايته هذه لقد أراد الدفاع عن قيم شرقية أمام فكر غربي مع أنه ذهب إلى الغرب وعايشه وبقي هناك لسنوات لأنه مأزوم من الداخل ولا يستطيع التخلي عن شرقيته المهم في ذلك أنه حصل من الغرب على تقنيته وعلومه وبقي محنطا تجاه هذه الأخلاقيات يقول هو عن ذلك أنا طريد المدنيتين ورحم الله الشاعر أبا البقاء الرندي القائل لكل شيء إذا ما تم نقصان