وجيه كوثراني وتداخل الخطابات المعرفية
في عالم تتزايد فيه التخصصات العلمية، ويصبح كل فرع معرفي معزولاً عن الآخر، يرى الباحث اللبناني وجيه كوثراني في كتابه التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية في إشكالية التداخل بين التخصصات (دار الرافدين، 2025)، أن هذه المعارف ليست خطابات مستقلة، بل شبكات متداخلة تحددها القوى التي تنتج المعايير وتضبط ما يمكن قوله. وهكذا يصبح التكامل ليس مجرّد توسيع للأدوات، بل عملاً نقدياً يفضح البنى السلطوية الكامنة خلف كل تفسير.
ينطلق القسم الأول من جذور الفكر الغربي في اليونان القديمة، حيث لم يكن هناك فصل واضح بين الفلسفة والتاريخ. يوضح الكتاب كيف استخدم أفلاطون التجربة التاريخية والسياسية لتأسيس نظرياته الأخلاقية و السياسية، بينما اعتمد أرسطو على الملاحظة الواقعية للأنظمة السياسية لتطوير مفاهيمه العامة. أما المؤرخون مثل هيرودوت وتوسيديد فلم يكونوا مجرد جامعي أخبار، بل قدّموا مادة أولية للفلاسفة، ما يدل على أن التاريخ كان حاضراً في صلب الفلسفة منذ البداية.
حين ينتقل الكتاب إلى العصر الإسلامي الكلاسيكي، يعرض لخصوصية العلاقة بين الفلسفة والتاريخ في الثقافة العربية الإسلامية، متحدّثاً عن القبب المعرفية الأربع كما صاغها طريف الخالدي. ومن بين الأسماء المركزية يبرز ابن خلدون، الذي يُخصّص له الكتاب دراسة معمّقة، ففي الوقت الذي ركز فيه بعض الفلاسفة مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد على الفكر الفلسفي دون دمجه مع التاريخ، كان ابن خلدون الاستثناء الأبرز، إذ جمع بين الفكر الفلسفي والتاريخي، داعياً إلى تحليل الخبر التاريخي وفهم باطنه وأسبابه الطبيعية، وهو ما يجعله أول فيلسوف للتاريخ في الفكر الإسلامي من وجهة نظر غربية.
ورغم أن ابن خلدون يُقدّم غالباً بوصفه استثناء في الفكر الإسلامي، لكونه ابتكر تحليلا سببياً للتاريخ لم يقدّمه غيره من الفلاسفة، إلا أن مشروعه لم يكن معزولاً تماماً؛ فقد استند إلى مناهج نقد الخبر في العلم الحديث، وإلى أدوات الفقه والأصول، وإلى التراث الفلسفي وتجربته السياسية الواسعة. ومع ذلك، لم يتحوّل عمله إلى مدرسة معرفية، بسبب غياب مؤسسات علمية تستوعب منهجه النقدي، وضعف الاستقرار السياسي، وعزلة ابن خلدون العلمية، فضلاً
ارسال الخبر الى: