كيف نخطط للمدن في ظل شبح حرب حاضر دائما بهذا التساؤل الموجز حدد عالم الاجتماع الإيراني الأميركي آصف بيات موضوع كتاب الباحثة اللبنانية هبة بو عكر لحرب منتظرة تخطيط حدود بيروت منشورات جامعة ستانفورد 2018 الذي صدرت ترجمته حديثا عن الفرات بتوقيع عبد الرحمن أياس وقد عادت الأستاذة المساعدة في الكلية العليا للعمارة بـجامعة كولومبيا لتتوسع في تفصيل هذا المفهوم وشرحه خلال تقديم كتابها إلى القراء في محاضرة عقدت مساء الاثنين الماضي في مكتبة برزخ ببيروت بالتعاون مع استديو أشغال عامة ترسيم عقاري لحدود طائفية انتهت الحرب الأهلية اللبنانية قبل أكثر من ثلاثين عاما لكن مفاعيلها وارتداداتها لم تنته بعد هذا ما تقوله بو عكر في كتابها الذي تعاين به ضواحي العاصمة اللبنانية الجنوبية الشرقية من دوحة عرمون جنوبا مرورا بصحراء الشويفات هي منطقة سكنية وليست صحراء وحتى حي ماضي مار مخايل هذا الخط المعروف بـطريق صيدا القديمة الذي يرسم حدود الضاحية الجنوبية لـ بيروت معقل حزب الله تشتغل على أطرافه حروب تخطيط مديني وصراعات سياسية عميقة تذكر بذلك الخط الأخضر الذي فصل بيروت طائفيا إلى شرقية وغربية بين 1975 و1990 قراءة بعيدة عن خطاب إعادة الإعمار ومركزية وسط المدينة يكتسب الكتاب أهميته من كونه مسحا ميدانيا إثنوغرافيا استوحى عنوانه من النذر بـحرب منتظرة وشائعات العسكرة لكنه لا ينتظرها بقدر ما يتعامل معها على أنها قائمة بالفعل فبمجرد أننا نخطط الواقع تحسبا للحرب نكون بذلك قد استدعيناها وحولنا حياتنا إلى امتداد لها فضلا عن أنها قائمة بالفعل هذه المرة وعلى هيئة عدوان إسرائيلي مستمر منذ تسعة أشهر نبقى مع أجواء ما بعد الحرب الأهلية وبزوغ سوليدير الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت التي تعدت وظيفتها من كونها شركة إلى خطاب أو وعد بمستقبل أفضل حيث الأبنية الملونة والشوارع المضاءة ليتبين فيما بعد أن هذا الخطاب ليس أكثر من ترسيم عقاري للحدود الطائفية في لبنان إنما بأذرع وأدوات تنفيذ سياسية من هنا تنطلق بو عكر من موقع طرفي يقرأ الضواحي وحدود المدينة بالعكس من وعود إعادة الإعمار إن منطق الحرب المنتظرة كما توضح الباحثة يأخذ طابع الحرب في زمن السلم لا تخوضها الطوائف بالبنادق والدبابات بل بعمليات بيع وشراء الأراضي والشقق والممتلكات الأمر الذي يشبك الحدود ببعضها فيتداخل ما هو سكني بما هو صناعي في مناطق فقيرة على الأغلب تسلم أمرها لأحزاب سياسية طائفية ذات أصل مليشياوي تعمل داخل الحكومة وخارجها وعلى رأسها حزب الله عن الشيعة وبشكل أقل حركة أمل وتيار المستقبل عن السنة والحزب التقدمي الاشتراكي عن الدروز والكنيسة المسيحية المارونية وما يرتبط بها من أحزاب التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب النزاع على الأنقاض وجنون البناء وبالنظر في عمران المناطق الثلاث المذكورة أعلاه تخلص الباحثة إلى ثلاث علامات للنمو المديني ازدواجية الأنقاض وتخريم الفرز والحدود المنفوخة عناوين الفصول الثاني والثالث والرابع من الكتاب ويمكن أن يساعد التمثيل في فهم هذه المصطلحات الاختصاصية فازدواجية الأنقاض وفقا للباحثة تتضح من خلال اتخاذ الأنقاض والبيوت المتضررة من الحرب مساكن مرممة ترميما ناقصا وعلى عجل وهذا ما حدث في حي ماضي مار مخايل الذي تحولت بعض بيوته المنخورة بالرصاص إلى منطقة شقق فخمة باهظة الثمن بعدما لفظت كل من نزح سابقا إلى المنطقة في حين أن عمارات أخرى ظلت على ما هي عليه لأن طرفا طائفيا الكنيسة منع آخر العقاريين الشيعة من استكمال التطوير العقاري خوفا على حدوده وتحت هذا تندرج محاولات حظر بعض البلديات بيع الأراضي بين الطوائف تنمية مبنية على أساس طائفي أدت إلى تشوهات حضرية وإلى الجنوب من حي ماضي تقع صحراء الشويفات حيث يتمثل طرفا خط التماس بـالتقدمي الاشتراكي وحزب الله وتنبه بو عكر إلى أن هذه المنطقة كانت خلال الحرب الأهلية أرضا زراعية تخضع لحراسة ملاكها الدروز لكن مشاريع الإسكان ذات التكلفة المنخفضة بدأت بالانتشار فيها بعد نهاية الحرب الأهلية لتستوعب بعد ذلك العائلات المهجرة من حي ماضي وهذا ما دفع بالحزب التقدمي الاشتراكي إلى تصنيفها منطقة صناعية وفي الوقت نفسه ضغط حزب الله لتصنيفها منطقة سكنية ومع الأخذ والرد السياسي بين الجهتين استمرت قوانين البناء بالتغير لفترة تجاوزت الاثني عشر عاما وهذا ما تسميه بو عكر بـالتخريم أما الحدود المنفوخة أو جنون البناء فتعرفها بو عكر من خلال منطقة دوحة عرمون أبعد الضواحي الثلاث عن بيروت التي يتطرق لها الكتاب حيث تمتزج فيها العمارات الفخمة مع مظاهر الفقر المدقع مما يجعل المنطقة تنتفخ من دون تنظيم المطورون العقاريون ينفخون المخططات السكنية على حساب المساحات العامة وإلى هذه المنطقة عادت العائلات السنية التي لم تعد قادرة على العيش في بيروت حين كان الوسط العقاري للمدينة يخضع بمعية رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري لعمليات إعادة الإعمار وهنا جاء دور تيار المستقبل ليعزز ربط دوحة عرمون ببيروت وكذلك صيدا جنوبا من خلال الاستثمار بمشاريع حكومية والاهتمام بالبنى التحتية مستثنيا من ذلك المناطق التي لا تشملها قواعد السياسة بعد هذا العرض تخلص بو عكر إلى أن المخططين المدينيين أصبحوا مجرد تقنيين وأدوات بيد الأحزاب الطائفية ومتماهين تماما مع منطق الحرب المنتظرة وهذا ما أدى إلى فشل تنموي ذريع وتتابع هذا لا ينطبق على بيروت وحدها فالمستقبل المديني حول العالم متنازع عليه مع دعوات جدية لإعادة تشييد الجدران بالمعنى الحرفي لإبعاد غير المرغوب فيهم وليست الإبادة الجماعية في غزة وإغراق اللاجئين بمياه المتوسط سوى مقدمات مرعبة لتلك التقنيات الأدق أمام هذا الواقع المسور الذي طرحته بو عكر يمكن بدورنا أن نتساءل معها أي أفق للانتفاضات وفي أي الفضاءات العمومية تتحرك أليست الثورات احتلالا للمكان وإعلانا للحق فيه كما كان ينظر لها في ستينيات القرن الماضي عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر أو الأميركي ديفيد هارفي اليوم في الفصل الأخير من الكتاب مستقبل متنازع عليه محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة مع الإحالة إلى تجارب نقابية بيروتية تغييرية كسرت نمطية التحرك الطائفي لكن ما مدى نجاعتها وفعالية هذه التجارب حقا بعد المآلات التي وصلت إليها انتفاضة 17 تشرين الأول أكتوبر 2019 هنا لا يقدم الكتاب إجابات مباشرة وحاسمة بقدر ما يبدو أنه سعي جاد لتفكيك واقع قائم ورغبة في الوصول إلى نمط عيش حضري كريم خارج سجن الحرب المنتظرة وتشوهاته