متى نعود إلى قطار الحضارة
حين يتأمّل الفتى العربي مقعده في منتصف السيارة أو الطائرة، بعيداً عن النافذة ومقصورة القيادة في آن واحد، لا يدرك أنّه يعيش رمزاً يتجاوز حدود الموقف البسيط، فذلك المقعد الأوسط ليس مجرّد موضع جسدي، بل يمكن أن يشير أيضاً إلى كونه استعارة عن موقع أمّةٍ بأكملها؛ أمّة كانت يوماً ما في مقعد القيادة، ترى العالم من الأعلى، ثم وجدت نفسها محشورة في منتصف التاريخ، تنظر إلى من يجلس بجانب النافذة أو مقصورة القيادة، فيتحكّم بالمشهد والرؤية والاتجاه.
السؤال إذن، ليس متى نحصل على المقعد بجانب النافذة أو مقعد القيادة، بل لماذا رضينا بالجلوس في المنتصف كلّ هذا الوقت؟
مقصورة القيادة، في بعدها الرمزي، تمثّل الرؤية، أن تجلس بها يعني أن تمتلك القدرة على رؤية الطريق، أي أن تمتلك وعياً بالتاريخ، وإدراكاً لاتجاه الحركة، ومن ثمّ حقًّا في المساهمة في القرار.
لقد جُرّد العرب، بفعل عوامل داخلية وخارجية، من هذا الحقّ في الرؤية، وأصبحوا يتلقّون المشهد لا يصنعونه، يشاهدون الأحداث لا يشاركون في كتابتها.
منذ القرون الوسطى، حين بدأت موجة الانكفاء الحضاري، واستُبدلت عقلانية الفعل بـعاطفية الذاكرة، بدأ الانسحاب من موقع الرؤية، وصارت النافذة مغلقة، أو مفتوحة للآخر فقط.
الغرب رأى من خلالها العالم وامتدّ إليه، والعرب أغمضوا أعينهم خوفاً من ريح التغيير أو من وهج ضوء الآخر.
تحوّل الماضي إلى قيدٍ، بدل أن يكون رافعةً، وأصبح التراث تبريراً للعجز لا منبعاً للفعل
تتجذّر الإشكالية في أن العرب، رغم امتلاكهم كل مقومات القوة (الموقع، الثروة، اللغة، الدين، التاريخ) يعيشون مفارقة مأساوية؛ ثراء الموارد يقابله فقر الإرادة، لقد تحوّل الماضي إلى قيدٍ، بدل أن يكون رافعةً، وأصبح التراث تبريراً للعجز لا منبعاً للفعل.
تراكم هذا الشعور بالوسطية والحياد حتى صار نمطاً وجودياً: نحن لسنا في الصف الأمامي حيث يُتخذ القرار، ولسنا في الصف الأخير حيث يبدأ التمرد، نحن فقط... في الوسط، ننتظر.
ثقافة الانتظار تلك جعلت العرب يتعاملون مع التاريخ كطائرة لا تصلح للقيادة والطيران إلا بقرار خارجي، في حين أنّ الشعوب
ارسال الخبر الى: