نصيبنا من نابليون

٤٥ مشاهدة
لا تزال شخصية نابليون بونابرت 1769 1821 تشد الفرنسيين والعرب تذكرهم ببدايات الاستعمار ودسائسه في مصر وقد يستذكرون علاقاته المبهمة مع الإسلام وحضارته لذلك مع كل كتاب أو شريط جديد ينجز حوله تهتز أوتار الذكرى وتطفو مفارقات هذا القائد لدى الفرنسيين ولدى بعض العرب على حد سواء فقد اكتشف الجمهور الفرنسي قبل أيام فيلما جديدا قديما عن بونابرت من خلال ترميم شريط يحمل العنوان نفسه أخرجه آبال غانس 1889 1981 سنة 1927 وسيعرض قسمه الثاني بعد أيام نظرا إلى امتداده على أكثر من سبع ساعات هذه الاستعادة هي نتاج مجهود استغرق خمسة عشر عاما قامت به مؤسسة السينماتيك الفرنسية التي كلفت المخرج والباحث جورج موريي بإعادة ترتيب مختلف مقاطع الشريط المنثورة على أزيد من ثلاثمئة بكرة أصلية تنضاف إليها سبعمئة أخرى محفوظة في أرشيف المركز الوطني للسينما وبعضها الآخر ظفر به في بلدان أجنبية من أجل التوفيق بين الاثنتين وعشرين صيغة المختلفة لهذا الشريط وقد سبق لمخرجه أن عدل بعضها فضلا عن استعادات أخرى أجريت طيلة العقود السابقة كاختصاره في صيغ أقصر أو إضافة حوارات أو موسيقى له فعندما فتح موريي البكرة الأولى سنة 2007 اصطدم بصعوبة المهمة لا سيما وأن فريقه لم يكن يمتلك وقتها الأدوات التقنية والرقمية التي تسمح بالترميم بعد استخراجه من المستندات القديمة مثل البكرات ولفات ورق التصوير الفوتوغرافي وغيرها ولذلك لم تبدأ عملية إعادة التصفيف إلا سنة 2017 حيث انكبت مجموعة من مهندسي الصورة والصوت على أكثر من ستمئة ألف صورة مفرقة لترتيبها ضمن عمل متماسك ومسلسل ترافقه معزوفات كما شمل العمل استعادة الألوان الأصلية التي ميزت ملامح الممثلين ومشاهد الديكور الذي احتضنهم حيث صورت جل تلك المقاطع في المناطق التي عاش فيها بونبارت عودة إلى الماضي العسكري للنفخ في صورة فرنسا بعد أن اهتز نفوذها ومن عناصر التجديد في عملية الإعادة هذه إضافة الموسيقى المصاحبة إذ كان الشريط في صيغته الأصلية صامتا إلا أن الموسيقي أرسمون كلوكي لافولي بحث في عشرات القطع الكلاسيكية من إنتاج بيتهوفن وموتسارت واستخلص منها سيمفونية تستمر سبع ساعات تصاحب كل دقيقة من دقائق العرض وقد بلغت تكلفة هذا الترميم أكثر من أربعة ملايين دولار أسهمت شبكة نتفليكس في دفعها باعتبارها أحد رعاة المشروع إلى جانب السينماتيك الفرنسية والتي اعتبر مديرها هذا الإنجاز بمثابة مغامرة داعيا الجمهور إلى التفاعل معها إما بتأكيد الإعجاب بهذا القائد أو بانتقاد سياساته وقراراته العسكرية وبقطع النظر عن سيرة نابليون موضوع الشريط فقد أراد المخرج لإعادة الإنتاج هذه أن تكون فرصة لبث الروح فيما اعتبره أحد أهم الأشرطة التاريخية في التراث السينمائي الفرنسي بل والعالمي حيث ابتكر غانس العديد من تقنيات التصوير والإخراج التي أثرت في أجيال عديدة من العاملين في مجال الفن السابع ومن المشروع أن نتساءل إن كان هذا الشريط في صيغته الأصلية كما في صيغته المرممة قد راعى وجهات النظر الأجنبية كالإيطالية والروسية والألمانية التي كانت وثيقة الصلة بحياة الرجل إلى جانب العربية الإسلامية طبعا لأن جزءا من سيرته رسمت ملامحها في مصر التي قضى فيها أكثر من سنة وفيها دامت حملته ثلاثة أعوام 1799 1801 بعد أن اصطحب مئات الضباط والجنود وعشرات العلماء بغاية استكشاف هذا البلد ثم تيسير نهب كنوزه مما عد أكبر تهيئة للحركة الاستشراقية والاستعمارية التي تجسدت بعد ثلاثة عقود فقط في الجزائر وليس هذا مجرد استنقاص سهل لهذه الشخصية بل إشارة إلى إصرار الفرنسيين على رفض استحضار رموز تاريخهم بعيون الدول المستعمرة التي عانت آثار توسعهم فكانت من مصادر ثراء فرنسا ومن أسباب تمكنها مع أنه لا أحد ينكر أن حملة بونبارت شكلت بداية حركة النهضة في العالم العربي ولا يغيب هنا أن الانهمام بشخصية نابليون يتنزل في إطار العودة إلى ذاكرة الماضي العسكرية وحتى الإمبراطورية للنفخ في صورة فرنسا بعد أن اهتز نفوذها في أوروبا والشرق الأوسط فضلا عن القارة السمراء وبعد أن تتالت عليها الأزمات الداخلية وآخرها صعود اليمين المتطرف وصده بتفاهمات سياسية رخيصة تذكر بدسائس نابليون وتغيير ولاءاته بحسب المصالح والغايات وعليه تأمل المؤسسة العميقة للدولة أن تكون هذه الشخصية جامعة موحدة لكننا لا نخالها ستنجح في ذلك بالنظر إلى كثرة تناقضاتها وتفاوت آثارها ثم بالنظر إلى عمق التصدعات الداخلية التي تهز النسيج المجتمعي الفرنسي الراهن فكأن فرنسا الممزقة سياسيا واجتماعيا تبحث عن رمز يجمع شتاتها فلا تكاد تجده إلا في بقايا قائد حربي اشتهر بدهائه ومعاركه وبسجل دموي ولا تعثر في طياته عن لمعات من العقلانية والقيم الحضارية إلا بين ركام الاقتتال الذي حصد آلاف الأرواح البريئة مع أن سيرته مررت على أنها ذروة المجد الماضي ويمكنها أن تلهم حاضر البلد فما يلاحظ أيضا هو حضور سمات من جنون العظمة التي ميزت قديما الإمبراطور وتماهى معها المخرج موريي حين سعى أن يكون هذا الترميم نفسه أسطوريا وأن يحطم أرقاما قياسية وهذا ما ستبينه في الأيام المقبلة كيفية تلقي الجمهور للشريط ومدى استجابته لشكله وفحواه وهل سيتفاعل إيجابيا مع آليات الترميم أم يجد فيها تشويها رقميا اصطناعيا لا أصالة فيه نشك في النتيجة نظرا لثقل السينما التاريخية على نفوس الشباب المغرقين حاليا في متابعة طواف فرنسا وانتظار الألعاب الأولمبية وهي على الأبواب وستظل إشكالية تلقي مثل هذه الأشرطة رهينة طرق إقناع المشاهد العجول الملول بخوض هذه التجربة الفريدة متابعة شريط صامت لسبع ساعات متتالية تلقي الوعي في خبايا تاريخ هذا الإمبراطور منذ طفولته وما في حملاته من دهاء وصعود من نجابة وهزائم ضمن سلسلة من المفارقات التي لا يمكن للعقل أن يذوبها بسهولة انصرف خاطري بعد الفراغ من مشاهدة الشريط إلى الأفلام العربية القديمة وتساءلت عن إمكانية إعادة ترميمها وإخراجها في حلة جديدة لما لها من قيمة فنية أولا في تاريخ السينما ثم بما تحمله من شهادات على تاريخ مجتمعاتنا العربية وتحولاتها المفصلية ولعل وزارات الثقافة في بلداننا أن تستفيد من آليات الترميم المستحدثة التي طورت بمناسبة العمل على هذا الشريط وتوظيفها في بعث روائع التراث السينمائي العربي والسعي لنشرها أملا في القطع مع سيل التفاهة الهادرة الذي تغرق الوعي والخيال كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح