نادر سراج وهوية المائدة البيروتية
كتاب نكهة بيروت: موائد وسرديات للباحث والمترجم وأستاذ اللسانيات الاجتماعية اللبناني نادر سِراج عملٌ بحثيّ يزاوج بين السوسيولوجيا واللسانيات والأنثروبولوجيا، ويحاول إعادة قراءة الطعام لا بوصفه حاجة يومية أو مظهراً من مظاهر الثقافة الشعبية فحسب، بل باعتباره نصاً اجتماعياً وفهماً للتحولات العميقة التي عرفها المجتمع اللبناني. يتعامل المؤلف مع المائدة، في كتابه الصادر حديثاً عن دارَي المؤلّف ومعالم بوصفها فضاءً رمزيّاً تتقاطع فيه اللغة والعادات والهوية، حيث تصبح الوجبات اليومية علاماتٍ قابلة للتفسير ومرايا عاكسة لطبقات التاريخ والذاكرة الجمعية.
يستهلّ سِراج (1948) كتابه بمقدمة ينسج فيها صورة بيروت عبر مطابخها وأسواقها، ويشير إلى أنّ اختيار المدينة ليس اعتباطياً، فهي نقطة التقاء الشرق بالغرب، والبحر بالجبال، والهجرات القديمة بالتبادل التجاري الحديث، بما يجعل مطبخها نموذجاً مثاليّاً لدراسة المعاني العميقة الكامنة في تفاصيل المائدة. في هذا السياق، يصبح الطعام خطاباً متحركاً تتقاطع فيه الدلالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتغدو الأطباق التقليدية، كالكبّة والتبّولة والحمّص، مفاتيحَ لقراءة تاريخ المدينة أكثر مما هي مجرد أطعمة تُقدَّم على الموائد؛ مُحقّقاً المعادلة في المثل السائر مفتاح البطن لقمة أو/ وكلمة.
يقرأ المائدة بوصفها فضاءً تتقاطع فيه اللغة والعادات والهوية
يتوسّع صاحب كتاب بيروت: جدل الهوية والحداثة (مكتبة أنطوان، بيروت، 2023) في استخدام أدوات تحليل الخطاب واللسانيات الاجتماعية ليكشف عن أنماط التسمية والأمثال الشعبية والمصطلحات المرافقة للطبخ والضيافة، معتبراً أنّ الأسماء والتعابير ليست عنصراً مكمّلاً بل لُبٌّ دلاليٌّ يحمل إشارات إلى الهجرات والتأثيرات الثقافية المتراكمة. كما يعرّج الكتاب على البُعد الطقسي للطعام من خلال فصول تصف بالتفصيل كيف تتحوّل الموائد في الأفراح والمآتم والأعياد إلى مشاهد اجتماعية تَستعرض القيم الجماعية مثل الكرم والتضامن، وتُعيد إنتاج العلاقات بين الأجيال والجماعات. ويكشف سراج عن حضور الأغاني الشعبية والأهازيج والأمثال في لحظات الأكل والضيافة، بوصفها توابل لغوية تضفي على الوجبات بعداً سمعياً وثقافياً يعادل النكهة في الطبق ذاته.
كذلك يتطرّق المؤلّف إلى أثر العولمة في تبديل معجم الطعام ومعانيه، فيسجّل تحوّلات المائدة البيروتية تحت ضغط سلاسل الوجبات السريعة والثقافة الاستهلاكية المتعجلة،
ارسال الخبر الى: