مهدي كريرة مسرح الماريونيت ضد هندسة الفناء

٥٠ مشاهدة
العام الماضي قدم الفنان الفلسطيني مهدي كريرة منشئ مسرح عرائس الماريونيت دمى الخيوط في غزة في أحد الأيام الرمضانية عرضا بعنوان كلام ريهام مع فريقه خيوط كان ذلك في دير البلح وقد أدت العرائس أدوارها التمثيلية ورقصت وغنت على الخشبة الصغيرة ثم رجعت إلى مكانها قاطعة مسافة 14 كيلومترا نحو حي التفاح في غزة آخر العروض الرئيسية كان في نيسان إبريل عام 2023 قبل أن تطبق حرب الإبادة على غزة في خريف ذلك العام فيصبح كريرة نازحا هذه المرة في دير البلح يتقاسم احتمالات الحياة مع خمس عائلات في حيزهم الضيق ومع مئات الآلاف في حيز أضيق قضى الفنان عشرة أشهر حسوما يرى البلد تتحول إلى اختزال جغرافي شمال الوادي وجنوبه وإذا ما أتاح الإنترنت الضعيف رؤية قطاع غزة في الخرائط التفاعلية فستبدو مضيئة على الشاشة الإلكترونية من الشمال إلى الجنوب جغرافيا مشطورة إلى شطرين على جانبي الوادي وشطرين بخط اسمه نتساريم وخطوط طولية مثل شارع صلاح الدين لكنها ليست كذلك بالعين المجردة فكل متر مربع محكوم بصوت الزنانة اللئيم المتواصل كل الوقت وما يقطع هذا الصوت هو فقط الانفجار كما قال كريرة في رسالة صوتية لـالعربي الجديد استمر بعروضه رغم استشهاد أكثر من ستين فردا من عائلته في آخر نص مسرحي بالدارجة الغزية يعمل كريرة على تنفيذه يعاين الزمن الذي يمنح الحياة من خلال سماع صوت الانفجار إذ اكتسب أحد الأطفال خبرة من والده مفادها أن سماع صوت الصاروخ يعني أننا بخير حتى الآن لأن الصوت يقع بعد الانفجار حاولنا الاتصال به مرات عديدة وفي كل مرة كان صوت الزنانة هو الواضح بينما الكلمات متقطعة لذلك وجدنا الحل في الرسائل الصوتية التي سيحكي عبرها مسيرة عرائس الماريونيت الجديدة إن على العرائس أن تتحرك كما قال المسرحي الفرنسي بول كلوديل ليس للدمية حياة إلا تلك التي تستمدها من الحركة وهي في عين مهدي كريرة صورة الكائن البشري الذي صنعها لتكون مثاله تعيش كأنها حرة وتستمد وجودها منه ويستمد هو دليله على البقاء بالمعنى الجمالي لا فقط البيولوجي شاهدنا العرائس كأنها ناجية من قيامة فقد كانت في الشهور الأولى من الحرب الهمجية غير منخرطة في اسكتشات وسرديات مسرحية كما هي الحال على الخشبات التي عهدناها خصوصا في مركز هولست الثقافي في حي التفاح وقد أسسه النرويجيون عام 1998 رأينا مهدي كريرة يصنع الماريونيت من مخلفات الحرب ومعلبات الإعانة فتجد علب الفول والبازيلاء والمرتديلا والسمن وغيرها مساهمة في بناء أجساد الشخصيات التي تؤدي اسكتشات بسيطة للأطفال تقف العرائس في مراكز إيواء النازحين في دير البلح كأنما تثبت وجودها من دون الإمكانيات التي كانت متوافرة سابقا وهذا جعل التجربة محفوفة بالتعاطف والترحيب وهي تقدم على مسرح ترابي يقف محركو الماريونيت خلف حاجز خشبي بسيط فقير فعلا لا كما يفيدنا به مصطلح المسرح الفقير يقول كريرة لـالعربي الجديد إن مناقشة جرت قبل العروض اتخذت على إثرها قرارا بعدم طلي العلب بالألوان لغياب الإمكانيات وكذلك لتشجيع الأطفال على إعادة تدوير ما يعثرون عليه من علب لصناعة عرائسهم الخاصة وإكسابهم من ثم خبرة أولية في هذا الفن وجد نفسه في دير البلح من دون فريقه المكون من 15 شابا وشابة دربهم على مدار سنوات على الصناعة والتحريك إضافة إلى شركائه الآخرين في الرسم ومونتاج الصوت والموسيقى والديكور والأزياء وكتابة النصوص والإخراج في 2016 قدم كريرة أول اسكتشاته وفي 2018 أول عمل مسرحي بعنوان أبيض أسود وهو عن مهاجرين تاهوا في البحر وتجمعوا على صخرة في عرض الماء ليحكي كل واحد حكايته بدأ الانخراط في صناعة عرائس الماريونيت مستفيدا من فنانين فلسطينيين في القدس وبعض المراكز الثقافية في الضفة الغربية وفنانين في مصر لهم باع طويل في المجال ولكي تصبح العملية مسرحا كان ينبغي أن يتقاسم مساره الفني مع شركائه ممن تعاون معهم أو دربهم مؤمنا بأن هذا الفن لا يمكن لفرد الادعاء بحمله وحده خلال هذه السنوات أنجز مع فريقه عشرة أعمال وكان طموحه تأسيس مسرح متجول في شاحنة تجوب القطاع مع مركز رعاية المواهب ضمن حراك مسرحي بشري ومسرح خيال الظل الذي وجد أيضا جمهورا له وقبل الحرب كانت لديه مساع بعد انتشار أعمال فريق خيوط سواء المسرحية الخيالية أو التوجيهية بالتعاون مع مؤسسات مجتمعية في قضايا الأسرة والتسرب المدرسي والتنمر وتشجيع القراءة والتوعية الصحية ومن ذلك فترة جائحة كورونا وصولا إلى تحضيرات لمسلسل تلفزيوني للدمى اضطر مع عائلته إلى النزوح لتبدأ حكاية المرض والجوع وقلة الحيلة قائلا إن البحث عن النجاة أتعبنا ومع ذلك المسرح هو الحياة الطبيعية التي عليها أن تجترح وجودها في ظروف قهرية وأول ما فكر فيه هو نشر الدمى في المحيط وتعويد الأطفال على وجود ضيوف من الخشب والكرتون والمعلبات ومخلفات الحرب مثل الفوم الأصفر في الثلاجات المحطمة وكل واحد منهم له اسمه وحالما انطلق في محاولته أقام عرضا على لوح زينكو قائلا إنه يعمل شيئا يحبه تلبية لحاجتين تعزيز الصمود وفتح طاقة أمل لأن لا أحد في الكون سيساعدنا ولدى تفكيره في إعادة تقديم عروض سابقة أبطالها الحقيقيون تركهم في حي التفاح في مركز هولست يعرف أيضا أن فقر الإمكانيات يجعل من الأداء أقل عمقا فتحريك الدمى في الظروف الطبيعية يقضي بأن يكون المحركون مختفين مما يوفر سيادة للعروس على مسرحها لكن الحاصل في هذه الظروف المهلكة أن المشاهدين من الأطفال يرون العرائس ويرون في نفس الوقت الشخص الذي يمسك بخيوطها ويحركها ولديه إيمان عميق بأن الظروف الجيدة للعرائس أو تلك السيئة تشبه علاقة الأبوة والأمومة التي ترفض التخلي عن الرابطة الدموية يقول قد أبدو مبالغا لكن من دربتهم على مدى السنين يعرفون أن العرائس عندي مثل أولادي يتذكر في الأثناء واحدة من العرائس التصقت يدها بظهرها خطأ بفعل الصمغ وخرج من المكان وفجأة رجع ليعدلها حتى لا تتوجع يدها أما فراقها منذ شهور طويلة فقد جعله تحت شعور بالذنب لأنه لم يطلب من أحد إنقاذها هي شخصيات معروفة ولها شهادات ميلاد بأسماء زلطة الصبي المشاغب والمتنمر ولونا وأوريون الفضائيان الباحثان عن أصدقاء أرضيين ونور المريضة بالسرطان وتخاف من اللعب وعزوز الذي يحب الشعر وحبوش الذي يحب الموسيقى وأبو فجلة بياع الخضروات وغيرهم من الشخوص المشهورين على مسرح الدمى في مواجهة الموت لا تتقدم أولوية على حياة الناس وهو يفكر في أن الدفاع عن الحياة فن أيضا بالمعنى الذي يجعل من الفن صورتنا الوجودية العابرة للزمن متمثلا المقطع الشعري لمحمود درويش هزمتك يا موت الفنون جميعها مضيفا أن الأشياء من ألبوم الصور إلى محل الفلافل الصغير إلى المساكن وهي تتحول في غمضة عين إلى أحشاء عبثية كل هذه ليست أشياء وهي كلها سطور مكتوبة على التراب والهواء من الفريق المتشظي في نزوحات مختلفة سيأتيه خبر من زميلة في فريق خيوط يفيد بأن مركز هولست لم يدمر حتى الآن ما يعني أن العرائس ربما ما زالت بخير يعطيه هذا دافعا جديدا ليوم جديد جمع فيه الأطفال ليروا إمكانية الحياة وهو يقول بصوت متحشرج في إحدى الرسائل الصوتية إنه فقد أكثر من ستين شهيدا من عائلته ولكن رؤية الأطفال وهم يتجمعون على التراب لمشاهدة عرض من أدوات الخراب هي محاولة ينبغي أن تستمر بسبب فقدانه إمكانية العودة إلى حي الدرج كانت الشهور الماضية امتحانا عصيبا من احتمال الموت في أربعة فصول كل فصل منها له طرقه في البقاء لكن الموت واحد كانت حاجته ماسة إلى الخشب في دير البلح وبصعوبة عثر على نجار كي يقص له الخشب بالشكل الذي يريد وكذلك صعوبة أن تتوافر كهرباء إذا ما وافق النجار ثم جمعها في الحوش والتفكير في إمكانية العثور على مواد أخرى بديلة لا بد من صليب خشبي هو الهيكل العظمي الأولي الذي تنهض منه عروس الماريونيت وتتعلم الكلام ويواصل بضحكة صغيرة أنه في الصباح فوجئ بأن ثمة من يسرق خشب العرائس لاستعماله حطبا للتدفئة في البرد القارس أو لطبخ طعام له ولأطفاله ويحكي القصة في مزيج من المزاح والعتب والتفهم لحاجة الناس لتسخين حليب لطفل أو قلي حبة بطاطا غير قادر على الإتيان بأي رد خشن لمن يضطر إلى ذلك لكن تكرار السرقات جعله يستأذن من يجاورونه بأن يأخذوا حصتهم ويتركوا له بعض الخشب من أجل العرائس بعد هذا تذكر أن العرائس العزيزة على قلبه في مركز هولست في حي التفاح وطوال هذه الشهور لا يعرف مصيرها فإذا لم تحترق في قصف بات ممكنا أن هناك من احتاجها حطبا قدم أول عمل مسرحي بعنوان أبيض أسود عام 2018 قبل أيام حاولنا الاتصال به مجددا أكثر من مرة فوجدناه قد نزح من جديد مغادرا البيت المهدد بالقصف إلى مخزن على الشارع يصلح لأن يكون دكانا ولكنه الآن بات مسكن أسرته والباب الذي يدفع للأعلى عليه أن يكون مشقوقا حتى يحصلوا على شيء من الهواء وبأسى يقول إن هذا ترف مقابل من يسكن في العراء تحت خيمة قماش وللدفاع عن العرائس اضطر لنصب خيمة صغيرة قريبة من الشاطئ كي تكون مقرا لها وقد جاهد في صنعها من خشب عزيز ومخلفات الحرب والعلب الفارغة غير أن المخزن لا يتسع لأفراد الأسرة والعرائس معا ومن دير البلح أخذت التجربة حظها من الحياة من غزة إلى العالم عبر فيلم بعنوان صبابا ضمن 22 فيلما قصيرا من أفلام المسافة صفر التي بادر إليها وأشرف عليها المخرج رشيد مشهراوي وهي تزور الآن مهرجانات عربية وأجنبية بدأت من مهرجان عمان السينمائي مطلع هذا الشهر لقد أبدى كريرة فرحه ذات مرة بأنه استطاع أخيرا تحريك الفك السفلي للدمية لتبدو طبيعية في ظروف وإمكانيات صعبة حيث المواد الخام بالكاد تسمح بشكل أولي للعرائس هكذا نطقت عروس الماريونيت أخيرا على مسرح دؤوب يقول إن هذه هي هندستنا المعمارية لأرواحنا ضد هندسة الفناء التي لا ترانا إلا من خلال أزرار وإحداثيات قل نظيرها في تاريخ الجريمة

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح