منظر أمكنة باكستان وأزمنتها

٤٦ مشاهدة
لم يبدأ الإرث الفني والثقافي للمنطقة التي أصبح اسمها باكستان عند تقسيم شبه القارة الهندية عام 1947 وتأسيس دولة ذات سيادة بل سبقه بطبيعة الحال كما في أي مكان من العالم موجود قبل الانقسام والولادة وقبل الاستعمار وبعد الاستقلال والآن ونحن أمام قرابة ثمانية عقود من جمهورية باكستان فإن الحراك الثقافي فيها سيعبر عن نفسه في إطار هويات متشابكة ومنفصلة تعرضت لانعطافات عنيفة وصارت تبني ذاتها مع توالي العقود ضمن هوية وطنية تطبعها مخاضات سياسية من داخلها وخارجها والمعرض الكبير منظر الفن والعمارة من باكستان الأربعينيات إلى اليوم الذي يقيمه متحف مطاحن الفن المستقبلي بالتعاون مع متحف قطر الوطني حتى 31 كانون الثاني يناير المقبل يقدم عبر 200 عمل فني تمثيلات غنية لهذين المكان والزمان الباكستانيين والذي يكتشف من يشاهده التنوع الأفقي الواسع المهاجر والمستقر بين خطي التقسيم والمولود باسم باكستان الكبرى غربية والصغرى شرقية ثم انفصال الثانية لتصبح بنغلادش عام 1971 وكذلك الحال في تقسيم زمني يصف مرحلة ما بالتقليدية وأخرى بالحديثة ترافقها سرديات ما بعد الاستعمار والآفاق المحكومة بانقلابات العسكر عدة مرات مدونة الرسامين الكبار أكثر من تسعين فنانا ومعماريا إضافة إلى مواد إعلامية معبرة عن الأحوال السياسية والاجتماعية من جيل رحل مبكرا عقب تأسيس الدولة وأجيال لاحقة ما زالت تمارس عملها في البلاد أو المهاجر كلها تجتمع في اثني عشر قسما يبدأ أي سرد في مدونة الرسامين الكبار حتما بعبد الرحمن جغتائي 1897 1975 وأستاذ الله بخش 1895 1978 وزين العابدين 1914 1976 الذين رسخوا مكانتهم كأسماء منخرطة في التقاليد التاريخية والفنية الغنية لمنطقة جنوب آسيا بما يعني أن جزءا كبيرا من تراثهم هو ما قبل الدولة وحكما تحت الاستعمار تظهر في أعمال زين العابدين الحياة اليومية في الأرياف غالبا إلا أن ما عزز موقعه كأحد أكثر الرواد تأثيرا على الفن الحديث في المنطقة كان سلسلة أعمال مؤثرة ومبسطة سلطت الضوء على محنة ومعاناة الملايين خلال مجاعة البنغال وهي التي نعاين بعضها مرسومة بالحبر الصيني على الورق أما الأسلوب الفني الفريد لعبد الرحمن جغتائي فهو متجذر في القيم الجمالية الإسلامية وفن المنمنمات المغولية والفارسية بالإضافة إلى تفاعله الوثيق مع أعمال عدد من شعراء وكتاب اللغة الأردية بينما تأثرت أعمال أستاذ الله بخش بالأسلوب الأكاديمي الغربي المتجسد بفن رسم اللوحات الذي حاز على رعاية البريطانيين خلال فترة الاستعمار حداثة فن الخط يضع مؤرخو الفن لحظة الاستقلال علامة فارقة بين الشاعرية الرومانسية السابقة وأنماط التعبير التي تخلقها اللحظة الراهنة وكان للاضطراب السياسي بالطبع تأثير كبير على التعبير عن النفس وعن الهوية والاستقلال والتمثيل في المرحلة التي توسم عادة بما بعد الاستعمار والتي تعبر عن ذاتها بقوة الدفع الاستقلالية كان التجريد وفن الخط يؤطران سردية الحداثة خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين يعرض لنا معرض منظر نماذج من أعمال الفنان صادقين 1930 1987 أحد كبار ممثلي حداثة فن الخط وفي أعماله نشهد حالة من التصادم القوي بين الأشكال المتطاولة والتجريدية والتعبيرية القائمة على مساحات مشطبة تنطوي على حركة وتحمل طبقات عدة غالبا ما تستحضر الأعمال الكثيرة لصادقين أشعار غالب 1797 1869 ومحمد إقبال 1877 1938 وفيض أحمد فيض 1911 1984 كما تشمل عدة جداريات كبيرة الحجم في فضاءات عامة ولفيض أحمد الشاعر اليساري من لاهور بورتريه بالحبر رسمه الفنان الهندي الشهير مقبول فدا حسين 1915 2011 ضمن محتويات المعرض إذ جمعت الاثنين صداقة متينة سبقت التقسيم بسنوات وقد تجسدت حداثة فن الخط هذه ضمن أعمال إسماعيل غلجي 1926 2007 الكبيرة والانفعالية واللوحات التجريدية لأنور جلال شمزا 1928 1985 التي تزاوج بين الخط العربي وأنماط التزيين التقليدية للسجاد ولوحات أحمد برويز 1926 1979 ذات المنحى الشاعري بين اللون والمساحة والشكل جدل العمارة والعمارة التي تتقاسم أرجاء المعرض كذلك عكست جدلا فنيا بل تمترسا لدى الفرقاء وراء قناعات الدفاع عن الهوية المحلية أو قبول التأثيرات الخارجية أو الاختيار الحر استجابة لأمثولة فتح النوافذ للرياح دون السماح باقتلاع الجذور فبعد أقل من أربعين سنة من الاستقلال وعمليات التقسيم المتلاحقة التي شهدتها شبه القارة الهندية واجهت دولة باكستان الجديدة تحديات على مستوى الإغاثة الإنسانية نتجت عن النزوح الجماعي وفي هذا الخضم يمكن مباشرة توقع شيوع النمط العمراني الوظيفي ثم سنجد من يشكك في جدواه فرغم إتاحته المجال أمام تشييد بنى تحتية متعددة في البلاد إلا أن مدنا مثل كراتشي ولاهور أخذت في التوسع بشكل كبير جدا وهو ما أظهر أن استراتيجيات التطوير غير كافية للتعامل مع هذا النمو الديمغرافي المعماريون مثل حبيب فدا علي 1935 2017 الذي شكك بالمقاربة الإقليمية الضيقة التي تنطوي على تراجع في ما يتعلق بالهوية وعارف حسن 1943 استنكر كافة المشاريع التي كلف بها القطاع الخاص أواسط الثمانينيات وكرس نفسه للنشاط السياسي والمساعدة في إطلاق برامج تشاركية لإعادة تأهيل المساكن المتداعية وفي لاهور ابتعد كامل خان ممتاز 1939 عن أسلوبه الحداثي وتوجه نحو سبر وإعادة اكتشاف تقنيات البناء التقليدية التي تسبق الحقبة الاستعمارية سنلاحظ دائما المكان الباكستاني الذي تتشكل على مسرحه تواريخ السياسة والفن والهدم والبناء ومواجهة المصائر ضد الخارج وضد الداخل غير أن الذين يعيشون هنا لم يكونوا كذلك قبل هذا التاريخ السياسي المفصلي ألا وهو الاستقلال وربما لم يعودوا باكستانيين في ما بعد إلا أنهم صنعوا الجمال مكتوبا ومرسوما بالانتماء إلى مجتمعات حواضر وأرياف عابرة للتصنيف فهذا الرسام زين العابدين حين رسم المجاعة في البنغال كان ذلك عام 1943 أي حين كانت شبه القارة كلها تحت الاستعمار البريطاني والرسام مرتجى بصير 1932 2020 حين رسم لوحة الغجري عام 1954 كان مواطنا في باكستان الشرقية التي ستصبح بنغلادش تأثيرات خطيرة يعتبر القيمون على المعرض أن العقد ما بين 1978 و1988 ترك تأثيرا خطيرا على مجال الفن والثقافة أكثر من أي فترة سابقة وهو العقد الذي وقعت فيه باكستان تحت حكم الجنرال محمد ضياء الحق إذ شهدت فترة حكمه تطبيق سياسات رقابة صارمة توجب على كافة الفاعلين الثقافيين في البلاد الالتزام بها وهو ما يشمل كافة أشكال الفنون والموسيقى والرقص والمسرح والسينما تظهر الصور الفوتوغرافية منتدى الحراك النسوي في مسيرات احتجاجية في لاهور ضد التمييز الذي انطوت عليه قوانين الحدود وقانون الأدلة والتي تعرضت لقمع قوات الشرطة بقنابل الغاز المسيل للدموع والهراوات ولا يزال إرث هذا المنتدى حاضرا في مسيرة أورات السنوية التي تنظم في أرجاء باكستان إلى الآن وتشهد انخراط الفنانين والفاعلين الثقافيين ورغم أن نظام الجنرال محمد ضياء الحق انتهى برحيله عام 1988 إلا أن تأثير السياسات التي طبقها لا يزال حاضرا في باكستان إلى يومنا الحالي بحيث تعكس أعمال فنانين مثل أنور سعيد 1955 وسليمة هاشمي 1942 وسلمان تور 1983 وقدوس ميرزا 1961 وفريدة بتول 1970 وغيرهم المشقة المتعلقة بكينونة الإنسان اليومية والمصاعب التي تنطوي عليها سياسات الهوية وفي أحد الأجنحة التي تراهن في كل وقت على اختلافها العميق عن تلك الأجواء الفنية العامية الحضرية وقد ذاعت في تسعينيات القرن العشرين ووقف وراءها فنانون ومعماريون من مدرسة وادي السند ومنها برز بوب كراتشي نتحدث هنا عن المدينة الساحلية المزدحمة والعاصمة المالية للبلاد والتي تشكلت كتلتها الكبرى من المهاجرين أو المهجرين وسكانها الأصليين وما بينهما من مكاسبات على النفوذ والتنميطات العنيفة أحيانا ثم التعايش الذي لا بد منه ثمة لغة فنية جديدة يرصدها المعرض تستقصي الثقافة البصرية والمحلية الحضرية اليومية في هذا الإطار أخذ الشريكان افتخار دادي 1961 وإليزابيث دادي 1957 وديفيد السوورث 1957 ودرية كازي 1955 يسبرون الجوانب البصرية المصورة السينمائية والعناصر الجمالية في الأسواق حيث يرسم ويلون الحرفيون الشاحنات وإعلانات أفلام السينما ويوظفون في ذلك المعادن والخشب وأضواء النيون الساطعة بحيث تتجاور ملصقات دينية وسياسية على الجدران وتنطوي الأمكنة على توليفة عبثية من الأشياء الغريبة وبذلك أتت أعمال هؤلاء الفنانين لا للتشكيك بهرمية الفن الراقي والفن الوضيع بل لتكسر الحواجز بينهما وتهدم نظام الترتيب المفروض بين الفن والحرف والثقافة الشعبية والفولكلورية

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح