نشر ممدوح عدوان مقالته العظيمة مهاجرون وأنصار في مجلة الناقد عام 1989 المقالة عظيمة لا لكونها سجالية مغموسة بسخرية لاذعة موجعة للكاتب ولقرائه في آن وحسب بل لأن طروحاتها طازجة وستبقى طازجة بصرف النظر عن التقلبات والتغيرات الجمة التي نكبت بها بلادنا كان لها أن تستعاد في حرب الخليج الثانية غزو العراق للكويت وفي الثالثة غزو أميركا للعراق وفي زمن الانتفاضات العربية وما تلاها من ثورات مضادة المقالة ليست سياسية بالمعنى الضيق للمفردة وهي سياسية جدا حين نستعيد معنى السياسة ودورها في الكتابة وتلك كانت إحدى نقاط السجال التي طرحها عدوان في مقالته يهاجم عدوان ثنائية المهاجرين والأنصار التي بدأت تخيم عربيا منذ نهاية الثمانينيات وتجذرت أكثر بعد موجات النزوح واللجوء والهجرات بعيد الانتفاضات العربية حيث المهاجرون هم مثقفو الخارج والأنصار هم مثقفو الداخل وبدا طبيعيا أن عدوان منحاز بمعنى ما إلى الأنصار بما أنه أحدهم إذ هو مطالب دوما بالثورة على الوضع القائم بينما أقرانه المهاجرون بعيدون عن لظى التعذيب والملاحقة والقمع لعل الصورة تغيرت قليلا بعد الانتفاضات وتلاشى جزء من تلك الثنائية غير أن الطروحات هي هي إذ يهاجم عدوان الحروب الأهلية بين مثقفي الداخل والخارج حين يكون هؤلاء المثقفون أنفسهم جلادي أنفسهم وغيرهم وضحاياهم في آن تحدث الهزائم والمجازر والاختناقات ولا يجرؤ أحد على توجيه تهمة ويظل الأديب العربي وحده في قفص الاتهام هل قام الأديب العربي بدوره في لماذا لأنه لا يستطيعون توجيه أسئلة مشابهة إلى رجل السياسة أو الاقتصاد أو الجيش الأسهل توجيه التهمة إلى الأديب قد تشوب مظلومية عدوان بعض المبالغة لو اكتفينا بهذا الاقتباس وحده برغم واقعيته وصحته غير أن معناه يتكامل حين يشن هجوما آخر لا يقل ضراوة على المثقفين المطالبين بـ نقاء الثقافة أي غربلة السياسة منها بحيث يحافظ الفن على فنيته وجمالياته صحيح أن الشرط اللازم والكافي للفن هو سموه الجمالي غير أن هذا السمو لا يتعارض مع الالتزام لو اخترنا مفردة بائدة أو مع شن المعارك الحقيقية لا المعارك الصغيرة كما يحدث لنا اليوم يهاجم المثقف أشخاصا يشبهونه لأنه لا يجرؤ على الجلاد معارك صغيرة في كل مكان تشتعل وتحرق بلظاها جميع الأطراف المشاركة غير أنها في واقع الحال تشتعل وتنطفئ فورا كي تنتقل الشرارة إلى معركة صغيرة أخرى حتى ميادين تلك المعارك موقتة انتهى زمن السجالات الثقافية الحقة لأن منابر الثقافة تلاشت وظهرت منابر أخرى تتناسب مع تلك المعارك الصغيرة لا مجلات بل بودكاست لا جامعات بل تغريدات لا مظاهرات وتجمعات بل طاولات مقهى انتقلت من الشارع إلى الكيبورد معارك تبدو للعين غير المدققة مهمة بيد أن أهميتها ظاهرية لأنها فعليا تنسف أهميتها التي قامت على أساسها ناشطون بيئيون يرشقون الشوربة على اللوحات الفنية كي يحتجوا على الطاقة غير النظيفة التي تقتل الكوكب ناشطون آخرون اختاروا سكب حبر في نافورة تاريخية ليلفتوا الانتباه إلى شح المياه متجاهلين المياه التي أهدرت في تنظيف تلك النافورة من حبر الاحتجاج تبدو تلك المعارك بعيدة عنا إذ هي معارك بيضاء مضحكة بالنسبة إلينا ولكن ماذا عن معاركنا مصور فلسطيني واضح السذاجة السياسية يمدح سلطة فيتركز الهجوم على المصور لا على السلطة مؤثرة تنشر كتابا فيزدحم المعرض بطوابير جمهورها ويجن المثقفون ويندبون القاع الذي وصلت إليه الثقافة ويتناسون أن السلطة التي تسمح لناشر وتمنع آخر بجرة قلم هي صاحبة المسؤولية الأولى والأخيرة عن هذا التردي من يتذكر حصة قراءة في مدارس اليوم من سمع بنقاش جامعي حقيقي من يتذكر مقالة جيدة يهاجم المثقفون ضحايا يشبهونهم لأنهم لا يجرؤون أو لا يودون الهجوم على الجلاد الفعلي فتختزل المعارك السياسية وكل المعارك سياسية في جوهرها إلى معارك صغيرة يظنون أن حلها بسيط يستبدل مؤثر بمؤثر أو رئيس تحرير برئيس تحرير أو أستاذ جامعي بآخر يهاجمون عسكرة السلطة الناصرية ويتغنون بعسكرة السيسي عسكرة بسمنة وعسكرة بزيت بل ثمة من يترحم على صلاح جديد مثلا ويتحسر على العسكرة الضائعة التي حرمنا منها وابتلينا بعسكرة حافظ الأسد نندب تردي الثقافة والأدب والفن ولا نجرؤ على هدم سقوف الرقيب بل نفضل التحايل بحجة تنقية الفن من وحل السياسة حين يكون المثقفون أنفسهم جلادي أنفسهم وغيرهم وضحاياهم في آن ثمة من يفضل تجاهل هذه المعارك كلها كبيرها وصغيرها داعيا إلى ثقافة غير سياسية متناسيا عبارة عبد الرحمن منيف الثاقبة في حواره مع فيصل دراج في مجلة الكرمل عام 2000 حين أشار إلى أن اللاسياسة في الأدب هي سياسة أي أن الدعوة إلى نزع السياسة من الثقافة والفن هي سياسة من نوع آخر سياسة مهادنة وترويض وخنوع إذ يذكرنا منيف بأن الأديب الذي يعلن نفوره من السياسة وابتعاده منها يعني بالضرورة أنه مع ما هو قائم وما هو قائم يؤدي حكما إلى إلغاء الحلم ومصادرة الغد والوقوف ضد التغيير الهروب من وحل السياسة يعني بالضرورة الغوص في وحل المعارك الصغيرة التي لا تكتفي بكونها عاجزة عن التغيير بل تسهم فعليا في تكريس التردي الذي تظن أنها تقارعه وكما أن معركة الشوربة واللوحات تبدأ وتنتهي في صالة متحف فإن معركة الهجوم على الخصوم الأضعف تبدأ وتنتهي في فيسبوك أو تويتر أو يوتيوب ما من تغيير ثقافي حدث بمعركة صغيرة وما من نهضة ثقافية ترسخت بمهادنة السلطة فالثقافة بمعناها الجوهري ثقافة معارضة حتى وإن كانت السلطة متسامحة مع الثقافة إنه محض سقف آخر لا سماء كاتب ومترجم من سورية