ارتبط مخيم جباليا في ذاكرتي بعمتي كانت امرأة نادرة وقوية ولم أكن أعرف أنها وضعت في مخيم يشبهها وتشبهه تزوجت قبل النكبة في سن لم تتجاوز الثالثة عشرة ولم تكن قد بلغت مبلغ النساء وكان عليها أن تصبح أما لعدة أطفال في سنوات متسارعة وتصارع الفقر وضيق يد الزوج الذي لم يكن يتوقف عن العمل ولكن ما يعود به لا يكفي عائلته ووالديه ولذلك صنعت هذه الظروف شخصية عمتي فريدة تشبه مخيم جباليا لم أكن أتخيل أن عمتي التي تأتي لزيارتنا في خانيونس مرة كل شهر بثياب نظيفة ورائحة صابون عطرة وقدمين ناعمتين وهدايا جميلة تعيش في بيت متآكل ومتهالك في مخيم جباليا ولم تكن تتوقف عن الحديث عن مميزات المخيم مثل سوقه العامرة وجيرانه الطيبين حتى ألححت أن أصحبها ذات مرة لأقضي بضعة أيام من إجازة الصيف على أن يأتي أبي لإعادتي إلى بيتنا وهكذا كنت أتقافز إلى جوارها وأتنقل من سيارة أجرة جيدة نوعا ما إلى سيارة متهالكة أوصلتنا إلى ناصية الشارع الضيق الذي يقع في نهايته بيت عمتي انهار تصوري تماما حين أشارت لي عمتي أن أتبعها لأن زقاق المخيم لم يكن يتسع لكي نسير متجاورتين حتى بلغنا باب بيتها والحقيقة أنه كان بابا لا يغلق ووضعت على حدوده خرقة كبيرة بالية لكي لا تسمح لمن يمر من أمامه أن يرى من في الداخل والداخل كان غرفا قرميدية مهشمة الأسطح والماء ينهمر من صنابير معطوبة وهناك أرضية مهشمة لا يمكن أن تستقيم مشيتك فوقها ما لم تكن تحفظ تضاريسها عن ظهر قلب ومثل عمتي تماما كان البيت يشع نظافة ورائحة الصابون العطر الرخيص تفوح من الأركان والغسيل المعلق على حبال قصيرة يلمع تحت ضوء شمس خافت ورائحة طعام شهي ينضج تنبعث من مطبخ صغير بالقرب من الباب وبمجرد أن أعلنت ابنتها الكبرى عن نضجه كانت عمتي تركض وقبل أن تستبدل ثيابها لكي تسكب طبقا حملته لجارة عجوز تعيش وحيدة على بعد بيتين من بيتها رويدا رويدا أصبحت أكتشف حياة المخيم وأكتشف أن العالم الذي يحويه عالم مختلف عن أي مكان فالفتيات جميلات يبتعن مجلات الموضة والمجلات الطبية التي كانت تصل من مصر ويتابعن التقارير حول العناية بصحتهن وعلاج آلام طمثهن ويتبادلن المعلومات ويقرأن أيضا لمحمود درويش ويستمعن لأغاني مارسيل خليفة ويحتفظن برسائل الحب الملونة والمعطرة في قعر كيس الطحين الذي يتم تسليمه لرب العائلة من وكالة غوث اللاجئين الفلسطينين أونروا أما الشبان فهم يتحدثون دائما عن مواجهات قادمة مع العدو ويفعلون ذلك كما يمشطون شعورهم الطويلة المنسدلة على أكتافهم حسب موضة السبعينيات ومطلع الثمانينيات ويرتدون البناطيل الواسعة والقمصان المشجرة ولا يختلفون أبدا عن أبطال الأفلام العربية التي جرى تصويرها في لبنان ولكنهم يحملون الحجارة ويهرعون خلف جيبات العدو في لحظة تاركين الأطباق الساخنة التي تفوح منها رائحة البامية بلحم الضأن ثم يعودون قبل أن تزدرد اللقمة في حلقك وهم يتمتمون بشتائم تخبرك بأن سيارة الجيب العسكري قد أفلتت من حجارتهم يختلف مخيم جباليا عن أي مكان في غزة إذا خرجت منه لا يمكن أن يخرج منك كما قالت عمتي والتي اضطرت لاستبدال بيتها الذي لم يعد صالحا للحياة ببيت في مشروع بيت لاهيا بناء على خطة من الاحتلال لتفريغ المخيم وطمس هويته حيث ساءت الخدمات البنيوية المقدمة لسكانه ولم تكن هناك جهود لإصلاحها لدفع السكان إلى الرحيل والهجرة منه كانت لي عودة قبل شهور قليلة من الحرب إلى مخيم جباليا في زيارة عابرة واكتشفت أنه لم يتغير وأنه كان وسيبقى أصل الحكاية ولديه أسرار للصمود لأجيال وأجيال فيما كنت أسير بين أزقته وماء المطر ينهمر على كتفي من مصرف صحي ينزلق من بيت ما ورائحة الطعام الشهي تنبعث من عدة نوافذ منخفضة ومهشمة الحواف فيما أغاني فيروز ومارسيل تأتي من الداخل متداخلة مع صياح صبية وضحكات آباء وزجرات لطيفة لأمهات