حين اعتمد الشيخ محمد صديق المنشاوي قارئا في الإذاعة عام 1954 لم يحدث تلك الضجة الكبيرة التي واكبت انطلاق أصوات بعض كبار القراء في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات وحين استقر في القاهرة لم يعين قارئا في أحد المساجد الكبرى إذ كان لكل منها قارئ كبير شهير ولم تجد وزارة الأوقاف له مكانا إلا في مسجد صغير في جزيرة الزمالك استطاع الرجل أن يؤكد حضوره باعتباره قارئا ممتازا جميل الصوت يقرأ متأثرا بأسلوب والده الشيخ صديق المنشاوي أشهر قراء الصعيد بعد الإذاعة أخذت شهرته تتسع تدريجيا ومن دون طفرات كما لم ينشغل هو بمنافسة أحد ولا بأخذ مكان أحد ولا بنيل أجر مماثل لأجور قراء آخرين ممن سبقوه شهرة وانتشارا واليوم وبعد 55 عاما على رحيل هذا القارئ الاستثنائي يمكن لأي مهتم بفن التلاوة أن يجزم بأن جماهيرية الشيخ استمرت في الاتساع وأن حضور الرجل في عام 2024 أكبر كثيرا من حضوره يوم فارق الدنيا وأن الإقبال على تلاواته اليوم يفوق كثيرا ما كان عليه خلال 15 عاما قضاها قارئا إذاعيا من قراء الصف الأول ولا ريب أن ختمته المرتلة تحظى بأوسع انتشار بين الشباب والأجيال الجديدة وبما يفوق زملاءه الكبار من أصحاب الختمات الشهيرة دخل الشيخ قلوب مستمعيه وترك في جماهيره أثرا وجدانيا عميقا صار اسمه علامة على الخشوع والأداء الهادئ الرصين وأصبح صوته من أهم أسباب نقل الاطمئنان إلى القلوب لعل المبحث الأول الذي يفرض نفسه عند دراسة محمد صديق المنشاوي هو إدراك ما امتلكه الرجل من قدرات مكنته من ترسيخ أقدامه في القاهرة التي كانت حينئذ تزدحم بطبقة رفيعة من أعلام القراء وتعرف إذاعتها ومساجدها الكبرى أسماء بمستوى مصطفى إسماعيل وعبد الفتاح الشعشاعي وأبو العينين شعيشع وعبد الباسط عبد الصمد وكامل يوسف البهتيمي ومحمود علي البنا وغيرهم من كبار الشيوخ المشتهرين داخل مصر وخارجها والنجاح واستمرار النجاح بين هذه الطبقة من القراء ليس سهلا ولا ميسورا إلا على من امتلك مقومات خاصة تسمح له بالارتقاء إلى ذلك المستوى الرفيع هذه المقومات يمكن اختصارها في جانبين الموهبة الفطرية والتأسيس المتين وموهبة محمد صديق المنشاوي كانت كبيرة واستثنائية صوت آسر وعريض خال من الحدة دافئ القرار درجاته الخفيضة غنية بالعرب وهذا أمر نادر جدا وفي بعض التسجيلات اقترب صوت الشيخ من مساحة ديوانين موسيقيين أوكتافين لكن هذا قليل نسبيا فمعظم تلاواته تأتي ضمن مساحة ديوان ونصف فإن انتقلنا من الموهبة الفطرية إلى التأسيس المكتسب فلا جدال في أن المنشاوي توفرت له كل عوامل التأسيس القوي وصقل الموهبة الأسرة كلها من القراء والحفظة والده قارئ وجده قارئ وإخوته قراء وقد صحب الفتى الصغير والده كظله وسمعه في الليالي الكبيرة التي كان يحييها بمعقل الأسرة في مركز المنشاة التابع لمحافظة سوهاج تدرب المنشاوي الطفل بقراءة والده وكان يقلدها حين يعود إلى البيت ولما بلغ 11 عاما كان قد تهيأ لصعود دكة التلاوة ثم اختار أن يحبس نفسه لأكثر من عقدين في نطاق جغرافي ضيق إذ أصر ألا يحيي الليالي القرآنية خارج حدود منطقة إسنا وقنا فلما جاء إلى القاهرة وهو في الرابعة والثلاثين كان قد اشتد عوده كان كبيرا فأفسحت له القاهرة مكانا بين الكبار هذه المسيرة تمنح درسا بليغا يحتاجه كل من يفكر في احتراف التلاوة لن تجدي الموهبة وحدها من دون تدريب وإعداد وتأسيس ولن يظهر بريق الذهب المدفون في المناجم إلا بالاستخراج والصقل وفي المقابل لن يجدي التدريب مع من لا يملك الإمكانات الموهوبة ومن المؤكد أن الصقل وإن طال لن يقلب الصفيح ذهبا اشتهر الشيخ محمد صديق المنشاوي بقدرته الكبيرة على كسب انتباه المستمع مبكرا بمجرد الاستهلال الذي برع فيه وتفوق ويتذكر المهتمون بتراث الشيخ استهلاله الشهير جدا في تلاوته من سورة غافر في ليبيا أواخر الستينيات حين كرر قوله تعالى يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ثماني مرات بأسلوب لافت مؤثر وهذه البراعة الاستهلالية كانت مهمة جدا لقارئ بنيت شهرته على الخشوع الأدائي الطبيعي غير المتكلف الذي يشعر المستمع به مع الكلمات الاستهلالية من دون انتظار التصعيد الصوتي أو النغمي ترك الشيخ محمد صديق المنشاوي ثروة كبيرة من التسجيلات سواء تلك التي سجلها داخل استوديوهات الإذاعة أو التي سجلت له من المحافل الخارجية ومن التسجيلات النموذجية في دلالتها على فن الرجل وأسلوبه الأدائي تلاواته الشهيرة من سورتي قاف والرحمن في دولة الكويت عام 1966 بدأ الشيخ تلاوته من مقام البياتي من أول قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وسار في تصاعد صوتي متدرج يختلط ببحة خاشعة لا سيما في طبقة القرار وبعد توقف مع مقام الصبا ينتقل المنشاوي إلى مقام النهاوند فيكرر به قوله تعالى قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ويظل مع النهاوند حتى تنتهي آيات الوعيد ليبدأ قوله تعالى وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد من مقام الراست ليساهم اختلاف النغمات في إظهار اختلاف المعاني لا يكشف تحديد المسارات المقامية للتلاوة عن جماليات أداء محمد صديق المنشاوي ولا خصائص أسلوبه الأدائي لكن استخدام النهاوند في هذه التلاوة يحطم إحدى الكذبات الكبرى الذائعة في عالم التلاوة المتمثلة في مدح القارئ لأنه يختار المقام المتناسب مع معاني الآيات التي يتلوها ودائما ما كان المثل يضرب بالنهاوند باعتباره مقاما لآيات البشرى والنعيم وفي تلك التلاوة قرأ الشيخ المنشاوي آيات الوعيد بالنهاوند ولم يشعر المستمع معه بأي تعارض بين النغم والمعنى ولا تخلى الشيخ في أدائه النهاوندي عن خشوعه المعتاد بل جاء الأداء في غاية تعبيرية متسمة بالجلال والجمال والاحتفال بذكرى رحيل الشيخ يمثل فرصة لنفي شائعات أخرى لا تكف الصحافة ولا مواقع التواصل عن نشرها عند كل حديث عن الرجل لم يرفض الشيخ القراءة للرئيس عبد الناصر ولم يثبت أن عبد الناصر طلبه شخصيا لم يتعرض الشيخ لمحاولة اغتيال بالسم ولم يكن في منافسة مع أي من زملائه أصلا حتى يحاول أحدهم اغتياله لم يمدح محمد عبد الوهاب أداء الشيخ ولا مخارج حروفه لم تترك الصحافة ولا مواقع التواصل الاجتماعي قارئا شهيرا من دون أن تنسج حوله مجموعة من الأساطير والأوهام بعد عام واحد من التحاقه بالإذاعة بدأ الشيخ المنشاوي رحلاته إلى الخارج وكانت إندونيسيا أول بلد يزوره لتلاوة القرآن أخذت شهرة الشيخ في الاتساع ودعي إلى التلاوة في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى وبدأت رحلاته إلى سورية عام 1956 حيث قرأ في المسجد الأموي في دمشق وفي معظم المدن السورية الكبرى وزار الأردن والكويت والجزائر وله زيارة مطولة إلى ليبيا يحظى الشيخ محمد صديق المنشاوي بجماهيرية واسعة يحبه الملايين داخل مصر وخارجها تدخل تلاوته قلوب المستمعين بلا استئذان تفوق في شعبيته على شيوخ يجاوزونه بقدراتهم الصوتية وتفننهم النغمي قدم الرجل للجماهير شيئا يتجاوز القدرة الفنية الاحترافية قدم لهم معايشة الكلمة ووقار النغمة وروحانية الأداء لم يكن سره في الخشوع الذي يظن أكثر قراء هذه الأيام أنه جمالية يمكن استدعاؤها احترافيا من خلال التلاوة بمقام حزين كان سره في الصدق قرأ المنشاوي فصدقته الجماهير