محاورة مرفأ آمن ولو إلى حين

٣٧ مشاهدة
هذا النص هو الثاني من أربعة نصوص تشكل بمجموعها محاورة بين الروائية السورية روزا ياسين حسن والروائية المصرية منصورة عز الدين وتتمحور حول الكتابة وجدواها في عالم فقد إنسانيته تمكن قراءة النص الأول على هذا الرابط عزيزتي روزا فاجأني العدوان على غزة وأنا في الولايات المتحدة الأميركية منخرطة في العمل على نص ذي صلة بالفجيعة فتوقفت تماما عن الكتابة غطى الركام والغبار ودخان الحرائق كلماتي ودفنها في جوفي رافقني صراخ أمهات ثكالى ينادين على أطفالهن وسط قرقعات القصف والدمار كموسيقى تصويرية تؤطر ساعات يقظتي وتتسلل منها إلى كوابيسي هذه المرة وعلى العكس من مرات عديدة سابقة لم يساورني أدنى شك في جدوى الكتابة وفاعليتها فالصراع في جزء كبير منه هو صراع سرديات لكنني وجدت نفسي عاجزة عن كتابة أي شيء خارج لحظة غزة وما تمر به من أهوال وتولد لدي نفور من كل كتابة تقارب الموضوع بتثاقف وحذلقة نفور نابع من شعوري بأن البلاغة والفحولة اللغوية ليستا فقط عاريتين وبلا معنى وقت الكوارث بل أيضا مثيرتين للاشمئزاز أتفهم التلعثم وأتعاطف معه في أوقات مماثلة وأثق في تأوهات الضحايا والمكلومين أكثر من ثقتي في أي نصوص مبالغة في تنميقها وكلما ازدادت جماليات اللغة وتفاصحها في نص عن جحيم أرضي ما تضاعف نفوري منه يذكرني هذا بما سبق وكتبته في قصة من خشب وهلاوس مأوى الغياب 2018 قد يكون ما يروعني أني حين أكتب ما شهدت عليه أستشعر جمالا خفيا كامنا فيه تخونني اللغة تسحبني إلى جمالياتها أقرأ فأجد الخرائب جذابة والموت اليومي مصاغا بدقة بارعة تنقيه وتعزل الوجع بعيدا تطرده من المشهد ولو مؤقتا هذه الكلمات ترد في القصة على لسان ناج في مدينة مدمرة شاهد وحيد يتفحص مفهومي النجاة والكتابة بوصفها شهادة وتؤرقه الهوة الفاصلة بين اللغة والواقع إذ ثمة دوما ما لن تقدر اللغة على القبض عليه ما سيتسرب منها ثمة دوما ما لن يقال وما لن يباح به ما سيبقى مضمرا وما سوف يكتمل في مخيلة القارئ ويلتئم بفضل التأويل لقد هالني ما كتبته عن ذلك الرجل الذي كان يغسل مئات الجثث كمن يسقي أشجارا في حقل بفضل كلماتك كدت أرى أشجارا بشرية تروى في حقل تخيلتها تجوس الأرجاء في ظلمة الليل بحثا عمن يشرح لها بأي ذنب قتلت أو على الأقل بحثا عمن يروي حكايتها تلقيت جوابا ضمنيا على سؤالي الأساسي عن جدوى الكتابة عبر تشبثي بالكتب كطوق نجاة مجرد كتابتك لهذا الحدث ولو كمثال عابر بعثه من هوة العدم وحفظه بطريقة ما ربما لن نعرف أبدا أسماء هؤلاء الشهداء وبالتالي لن نطلع على تفاصيل لحظاتهم الأخيرة ولا دقائق ما اختبروا من فظائع لكن كل من سيقرأ كلماتك هذه سيعلم أن جرما بشعا قد ارتكب في حقهم وأن هذا الرجل المجهول حاول إكرامهم قدر استطاعته وأنه بتأبطه ألبوم صورهم سعى لمقاومة النسيان عبر أرشفة من نوع ما أما عن الشكوك والهواجس بل وحتى الأوهام فقد تصالحت بمرور الوقت مع فكرة العيش معها أدركت تماما أنها جميعا جزء لا يتجزأ من حرفة الكتابة وهي حرفة مراوغة ماكرة يكمن مقتلها في اليقين والطمأنينة لقد أعادتني رسالتك إلى فترة مؤرقة مررت بها في 2012 ودامت لسنوات قليلة فترة تملكتني فيها الشكوك في جدوى الكتابة ودورها حين يسود العنف لكن للمفارقة لم أجد في مرحلة تشككي ويأسي تلك سوى القراءة والكتابة عونا لي أغرقت نفسي وقتذاك في ألف ليلة وليلة متمنية أن تعيد لي إيماني بالكلمات كونها أحد أرفع النصوص في مديح فن الحكي بالتوازي معها وجدت بعض الأجوبة على أسئلتي في أعمال زيبالد وبريمو ليفي وحنا آرندت كنت مثقلة بتساؤلات شائكة عن عبء الذاكرة ومفهوم النجاة وطبيعة الشر وفي تلك الأعمال وجدت رفقة وسلوى والأهم أنني تلقيت جوابا ضمنيا على سؤالي الأساسي عن جدوى الكتابة عبر تشبثي بالكتب كطوق نجاة لذا لم أندهش حين اكتشفت من رسالتك أنك قد فعلت الأمر نفسه تقريبا وإن استعنت بكتاب آخرين لن أقول مثل بول أوستر إن جمال الفن وقوته يكمنان في لا جدواه تلك إنما أقول فقط ربما يكمن جمال الكتابة في أنها تقودنا برحابتها إلى التشكك فيها واليأس منها والكفر بها وإلى انعدام ثقتنا في جدواها وفي قدرتنا على اجتراحها ثم في إدراكنا اللاحق أنها قدر لا فكاك منه وأنها السم والترياق في آن معا ربما يكمن جمال الكتابة في أنها تقودنا برحابتها إلى التشكك فيها واليأس منها والكفر بها وإلى انعدام ثقتنا في جدواها وفي قدرتنا على اجتراحها إذ لا غنى عن استحضار الصوت المغيب عبر التدوين خاصة حين يكون التغييب في سياق عمليتي إبادة ومحو ممنهجتين كما في حالة فلسطين لا أعني بالصوت هنا الأدب حصرا إنما كل ما يصب في نهر السردية الفلسطينية الكبرى منذ النكبة حتى لحظتنا هذه من حكايات متقطعة وأغنيات وفلكلور وتفاصيل حياة يومية وأطعمة وهمسات وتأوهات وجع أو حتى تمتمات خافتة قد نجد أنفسنا في النهاية أمام سردية متقطعة أو حتى متشظية لكنها حتى في تقطعها وتشظيها ستكون فسيفساء تستعيد في ثناياها الكثير مما سبق تغييبه سوف يسعها حتى في حالتها تلك بعثه للحياة مجددا وتدوين سيرة المحو والإخفاء وسوف تنتمي للمهمشين والمنسيين أكثر من انتمائها لسلطة ما فالتفاصيل الإنسانية الهامشية والخافتة هي ما يرسخ أية سردية ويحفرها في الوجدان قد نتساءل في الحالات العادية أو في أوقات الأزمات عن دور الكتابة مدركين أن تأثيرها الفعلي عادة ما يكون على نحو فردي وتدريجي لكن في حالات الإبادة والمحو الكامل لشعب ما يصبح لكل همسة وصرخة وتمتمة أهميتها يصبح تدوين قصة المحو كوسيلة لمقاومته الشعب شاغلا أساسيا لا يترك مساحة لما عداه أتذكر أنني قرأت يوما أن إميل حبيبي اتجه إلى الكتابة الإبداعية ردا على وزير المعارف الإسرائيلي آيغال ألون الذي نفى بعد هزيمة 1967وجود شعب فلسطيني بحجة أنه لو كان هناك فلسطينيون لأنتجوا أدبا ثمة حالات تكون الكتابة فيها قضية وجود ومقاومة للمحو حرفيا لا مجازيا لكن الخطر المحدق بها في حالات مماثلة يتمثل في إمكانية تحولها إلى بروباغندا والبروباغندا رديئة بالضرورة والتعريف حتى لو وظفت لخدمة قضية عادلة فمن مكر الكتابة ومفارقاتها اللافتة أنها تؤثر أكثر إن لم تسع للتأثير بمعناه الدعائي الساذج تنحفر في نفوس القراء إن ولدت من رحم ألم عظيم وخرجت مثل شهقة الغارق وعلى ذكر الغرق دعيني أخبرك أنني مثلك قضيت فترة مسكونة بصور غرقى المتوسط من فقدوا حيواتهم في أوديسة الهرب من الموت والحلم بمرفأ أمان على الجانب الآخر من بحر تحول إلى مقبرة شاسعة نبتت بذرة روايتي أخيلة الظل 2017 هناك في أعماق المتوسط وخيم عليها طيف الغرق بوجوهه المتعددة لا يمكنني قول إنني كتبتها وفي ذهني مقاومة النسيان كل ما في الأمر أنني في ذاك الوقت شعرت بأنني مثلهم أختنق في أعماق ماء يكاد يفجر رئتي تملكني شعور أنني كما قالت إنغبورغ باخمان أكتب بيدي المحترقة عن طبيعة النار التفاصيل الإنسانية الهامشية والخافتة هي ما يرسخ أية سردية ويحفرها في الوجدان حقيقة لا أعرف يا صديقتي هل نكتب فعلا لنقاوم النسيان أم أننا نستدعيه أحيانا عبر الكتابة ننقل مخاوفنا وكوابيسنا وهشاشتنا نعريها ونعرضها أمام الأعين الفضولية على أمل التخلص من عبئها ووضع مسافة مفترضة بيننا وبينها لكننا سرعان ما ندرك أن ثمة أشياء لا يسعنا تجاوزها أو نسيانها أيمكن التخلص من طيف إبادة أبمقدورنا إذابة ضجيج الصراخ المكلوم والانفجارات المدوية ورجفات الخوف في كلمات ثم مواصلة حياتنا كأن شيئا لم يحدث يؤبد التدوين كل ما مررنا به وشهدنا عليه أو كما قال الناجي الشاهد في من خشب وهلاوس ما أكتبه يخيفني لأنه يثبت كل ما رأيت من أهوال يحييه ويكرره بلا نهاية فلا يمحي من ذاكرتي ربما تكون الكتابة الأمرين معا رحلة شاقة تغص بأسئلة وشكوك ووساوس تضعنا في عين الإعصار ومرفأ آمنا يحمي من وحشية العالم ولو إلى حين وقد يتمثل دورها كمرفأ بالأساس في كونها تعين من يحتمي بها من كتاب وقراء على تفكيك الشر وتسمية الأشياء بمسمياتها ما يقود في النهاية إلى تخليص اللغة مما علق بها من أدران التزييف والتضليل في النهاية وفي سياق متصل أرغب في سؤالك عن وضعك كامرأة عربية تقيم في الغرب منذ سنوات وإلى أي حد ساعدتك الكتابة في تذليل ما يواجهك من عقبات وصور نمطية خاصة في ظل الأحداث الراهنة

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح