يمتلك فلاسفة العيش اليوم ما يكفي من سبل الراحة وسعة الوقت وتوفر الرعاية لغاية التفرغ لإعادة تقديم نصوص تاريخ الفلسفة بنفس جديد ورؤية جديدة وإنهم ليقدمون عملا مفيدا بكل تأكيد لا غنى عنه للباحثين والدارسين والمتعلمين لكن المؤكد أيضا أنهم ما عادوا يمتلكون فرصة اختبار ذواتهم وحكمتهم في ظروف الحياة الأشد قسوة ما عادوا يواجهون ضراوة العيش لقد صارت حياتهم سهلة وأسفارهم بلا صعوبات وهذا مكسب ثمين بلا شك لكن السؤال هل يستطيع المقاتل أن يطور مهاراته في المعارك السهلة هل يستطيع ربان السفينة أن يطور مهاراته في البحار الهادئة بل أكثر من ذلك ينعم فلاسفة اليوم بما يكفي من الرعاية والأمان وبالدعم الواسع للمشاريع الثقافية داخل دول تراهن قولا وفعلا على الإنتاج الفكري والثقافي ما يجعل الكثير من الفلاسفة متفرغين لشرح الأفكار للناس والمساهمة بالتالي في تنمية الذكاء العمومي صونا لمكتسبات الديمقراطية والحداثة والعلم وهذا كله جيد للحضارة المعاصرة لكن هل بإمكان فنان العيش أن يبدع خارج صعوبات العيش ذلك هو السؤال إلى حدود منتصف القرن العشرين استطاع معظم الفلاسفة الغربيين أن يطوروا أفكارهم حول العلم والحياة على محك مآسي الحروب العالمية ومعتقلات الإبادة ومخاطر الإشعاع النووي أما اليوم فماذا هناك أين المحك والامتحان هل بإمكان فنان العيش أن يبدع خارج صعوبات العيش بينما يحتسي قهوته في بلدة فرنسية هادئة يكتب الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي عن فن العيش قرب البراكين يمنحه ترف العيش فرصة الغوص في أعماق النصوص واستكشاف أفكار نحتاجها بالفعل وهذا مفيد بكل تأكيد لكن أين التجربة أين الاختبار أين المحك أين المحن يبدو الأمر كما لو أنه يتعلق بمدرب يحاول أن يعلم الناس كيف يكسبوا معارك لم يخضها يوما ولا هو محتاج لخوضها في الأساس ليس ضروريا أن يبحث الفيلسوف عن المصاعب في زمن الرفاهية والرعاية الاجتماعية ليس ضروريا أن يمشي على الشوك حين يجد البساط أمامه ليس ضروريا أن يخوض كل التجارب المؤلمة بنفسه حين يحظى برغد العيش غير أن الفيلسوف في المقابل هو من يسافر إلى الناس في كل أحوالهم وأهوالهم فهل يسافر أحفاد سقراط اليوم إلى الناجين من الإبادة المجاعة الحصار الاختطاف الألغام الموت هل يسافرون إلى حافة الحياة حيث النماذج الأكثر تعبيرا عن الوضع الدراماتيكي للوجود البشري على الأرجح ستكون الإجابة بالنفي القاطع أي لا مقابل ذلك كله هناك سؤال آخر ألا تمثل مجتمعات الجنوب في المقابل بكل آلامها وخيباتها وزلازلها وأعاصيرها وفتنها التي لا تبقي ولا تذر مختبرا حقيقيا وبالتالي أفقا جديدا للتفلسف هنا أراهن على أن يكون الجواب بالإيجاب أي نعم القدرة على التفلسف هي حظ الناجين من الخيبات والانكسارات والأهوال بوسعنا أن نراهن على ذلك وبوسع كل واحد منا أن يحاول المساهمة في دعم الإجابة وهكذا علينا أن نتصرف الآن علينا أن نكف عن الأسى والتذمر بدعوى أننا ولدنا في الجزء الجنوبي من الأرض حيث الخوف أكثر والحزن أكثر والعنف أكثر والجهل أكثر وخيبات الأمل تتكاثر أكثر فأكثر علينا أن نتوقف عن الأسى والسخط والتذمر فذلك مجرد جبن مغلف بأوهام الطفولة علينا ألا ننسى أن الإبحار الجيد مهارة الناجين من مختلف العواصف والأعاصير علينا ألا ننسى في آخر المقام أن القدرة على التفلسف حظ الناجين من الخيبات والانكسارات والأهوال