لم تكن امرأة من قصائد كانت من لحم ودم وتنهدات وكان الشعر يأتي صمتا متموجا كالبخور من روحها كنت قد قدمت استقالتي للتو من شركة التعدين ووضعت البيت رهن البيع الشاحنة المزرعة الصغيرة جدا التي ورثتها عن نتاليا بما في ذلك الأحصنة الثلاثة رغم أن الأمر لم يكن يسيرا علي خصوصا مع الأحصنة التي تركت أمرها لمحسن ولم ألتفت ورائي كنت أعد حقيبتي وأرتب أموري من أجل سفر كامل ونهائي فجأة وفي تلك الليلة المرعدة تغير قراري وتغيرت حياتي وكان السبب دون أدنى شك هي روحها الجاذبة إلى ملكوت كامل من المجهول اللذيذ كان لا بد أن أودع هذه المدينة الساحلية الصغيرة التي أحببتها قبل أن أرحل المدن مثل الناس مثل الأقارب وبالضبط مثل الأخوات الكبيرات ومثل الأمهات وداعهن يظل جارحا دائما ومشوبا بالدموع أكره الوداعات أرحل في الغالب بغتة وبصمت في الفجر حين يكون أهل البيت نياما أسحب الباب ورائي ببطء شديد كي لا يحدث أي صرير يوقظ العواطف أقف لحظة صامتا أتأمل الباب تآكله تعبه أشعل سيجارة وأذهب في الضباب لافا كشكولي حول عنقي دون أن ألتفت كان وداعي المدينة السهر ثلاث ليال في حاناتها وقع اختياري على حانة الميناء حانة البرتغالي الضابط وحانة الكنغر الزجاجي أقصيت حانة الأناركيين القدامى بصعوبة في الليلة الأولى كانت السهرة عادية تليق بوداع عادي لمدينة عادية السهرة الثانية لم تكن سوى تكرار إلى درجة أني شعرت بالاكتفاء رغم ذلك ارتديت طقمي الأزرق الأنيق في الليلة الثالثة وتعطرت وابتسمت أمام المرآة لنفسي وقصدت حانة الكنغر كان لا بد لي من توديع لوحاتها ومالكها الأسترالي العجوز إنه نوع من التوديع الحقيقي لمدينة محفورة في ذكرياتي مرت السهرة سريعا كما لو أن المدينة أيضا تكره الوداعات أنهيت الزجاجة بالكاد وأخذت أستعد للعودة إلى البيت وفي تلك اللحظة بالذات ومن خلف الكأس رأيتها لم أرها تدخل وتجلس رأيتها مباشرة كانت تشرب وفوقها لوحة القديس الباكي الباكي على مآلات البشرية ربما رأيتها مباشرة كاملة وناضجة وأزلية وأبدية كما لو أنها جزء من المكان كما لو أنها روح المدينة لقد حدث ذلك بالفعل ليس في حلم وليس في فيلم بلباسها الشتائي الأسود وبالخاتم لامعا في إصبعها بأناقة الكونتيسات وبساطة بائعات الخبز وبمجرد ما التقت عيوننا عرفت أن شيئا عظيما سيحدث لا تلتقي تلك المرأة كل يوم إنها تأتي مرة واحدة في العمر تأتي لتكون امرأة حياتك وربما تذهب بعد ذلك بعد أن تتركك دون حياة تبحث عنها في كل النساء في هذه وفي تلك دون جدوى وأخيرا تجلس وحيدا في مقهى صباحي وفي يدك عكاز لتتأمل تساقط الأوراق اللولبي من الأشجار المدن مثل الناس مثل الأقارب وبالضبط مثل الأخوات الكبيرات والأمهات وداعهن يظل جارحا دائما ومشوبا بالدموع كانت جالسة هناك كما لو أنها المدينة لم أتخيل ابتسامتها إنها ابتسامة حقيقية تقصدني كما لو أنها جاءت من أجلي فقط مرسلة من طرف العاصفة والأمطار والسدم الكونية المعتمة ليس من عادتي الوقوف والمشي بثبات في اتجاه سيدة في حانة ما أو في أي مكان آخر وتحريك الكرسي والجلوس والنظر بعمق في عينيها عمل جنوني للغاية يفتقر إلى اللياقة ما أفعله عادة هو الشرب والتدخين والإصغاء إلى الموسقى وقراءة كتاب الشعر الذي يكون في يدي تاركا لجلبة الحانة أن تتلاشى داخل بواطني شيئا فشيئا سوى أن ما حدث هذه المرة هو ذاك كما لو أنني أعرفها كما لو أني انتظرتها طويلا وتلك هي ساعة الحسم وقفت وتمشيت بثبات في اتجاهها وجلست وحدقت طويلا في عينيها العسليتين اللامعتين في ضوء الخمر حدقت فيها بعمق آبار سحيقة كما لو أني ألومها لأنها تأخرت كثيرا وبادلتني تلك النظرة الأمومية الشفوقة الحائرة مشفوعة بابتسامة عذراوات الكنيسة لم أكن أحلم الأحلام نفسها لا تأتي بكل ذلك الترتيب وبكل ذلك الإغواء كنت أريد أن أبكي متوسدا صدرها حدقت فيه كان يانعا نافرا ببطء وكافيا لإسناد رأسي عمرا كاملا كنت محتاجا لتلك الدموع علها تغسل ما مر بي دموع ملتهبة وعطشانة أردت أن أبكي ونحن عاريان نمارس الحب بلهفة شديدة أردت أن تعيرني بعض الدموع من عينيها الكبيرتين أردت كل ذلك بكل وجداني وبكل جوارحي وبكل صمتي المزمن أخرجت سيجارة ومدتها إلي انتبهت إلى أنها نفس ماركة سجائري اسمي ماريا لا أدخن كثيرا سوى أني أحب رائحة التبغ ما اسمك قالت تخيلت أنها تمطر بغزارة أقوى في الخارج وتبرق وترعد وأن علينا البقاء في هذه الحانة إلى الأبد لقد تدمر كل شيء أنا الناجي الوحيد من دمار حياتي وكأي مولود جديد أحتاج اسما ما رأيك أن أطلب زجاجة قهقهت ثم ما لبثت ملامحها أن تغيرت إلى جدية وعبوس وعمق مأساوي ثم أشاحت النظر بعيدا وقالت اطلب زجاجة نعم ربما سنحتاج أكثر ليس ضروريا هنا فقط بل ربما في مكان آخر في كل مكان إن أردت ما اسمك في الحقيقة لا أحب اسمي أبحث عن اسم جديد وحياة جديدة لقد تدمر كل شيء أنا الناجي الوحيد من دمار حياتي وكأي مولود جديد أحتاج اسما هذه أول ليلة لي في هذه المدينة أنا أيضا الناجية الوحيدة من دمار خلفته ورائي في مدينة أخرى ثم تنهدت وأكملت أنا أيضا اسمي ليس ماريا ماري إنه اسمي الجديد مرت الآن عشرون سنة على كل ذلك عشتها كلها أنا وماريا ماري يوما بيوم والآن ها أنذا وحيد من جديد في هذه المدينة نفسها الناجي الوحيد من دمار حياتين سوى أني هذه المرة عاجز عن الرحيل الأيام الباقية في حياتي خصصتها لسرد قصتي أنا وماري منذ يومها الأول إلى ذلك اليوم الخريفي الكئيب حانة الكنغر الزجاجي لا تزال في مكانها الزوارق والمراكب في الميناء لا تزال في مكانها والنوارس أيضا في مشهد قيامي أبدي لا تزال في مكانها