لقد انتهى زمن الشعر لا أحد يقرأ الشعر سوى الشعراء أنفسهم إنهم نرجسيون ولا يفهمهم أحد عكس الروائيين لا كتارا ولا بوكر للشعر جوائزه قليلة وعديمة القيمة نسخه لا تباع بل تهدى على الأغلب ودور النشر تشيح بوجهها عنه ولا تقبله إلا على مضض الشعر الحديث سيئ للغاية ومعقد وحتى التلاميذ ينفرون منه ولا يفهمون طلاسمه لقد انتهى الشعر مع الأبيات التي كان يسهل حفظها والاستشهاد بها أبيات تحفظ للغة وجه مائها وترفعها إلى جمالية الإيقاع وفصاحة الإنشاد يتمتع البعض بثقة عجيبة كهذه ليعبر عن موقف رافض للشعر الحر كثير من هذا البعض يشجيه شعر الأدب أي الشعر الكلاسيكي القديم يحفظه عن ظهر قلب فالمعنى ظاهر وواضح لا يستغلق إلا حين غموض المفردة التي يجليها بفرح القاموس اللغوي الأكيد أن الشعر الحر يتسم بنوع من الرفض وحتى الهجر ويعامل بمنطق السوق من طرف دور النشر وليس على أساس معيار إبداعي محض والأكيد أيضا أن هذا الشعر فيه ما يكفي من خيانة لأفق انتظار القارئ الذي لا يقرأ أبعد مما يفهم سلفا ويعرف دون أن يدرك وضعه المحرج كقارئ في الإطار الضيق للقراءة حيث لا يقرأ سوى ما يتوقعه ولا يطمئن إلا إلى ما يألفه من بسيط المعنى والعبارة الشعر الحديث بالنسبة إليه مجرد قطعة أو مقاطع خرساء وربما كان شعراؤه أكثر المبدعين عرضة للالتباس والطعن في موهبتهم وأهميتهم كشعراء لعل أدونيس مثال جيد على ذلك بينما يظل بالمقابل الشعر الكلاسيكي القديم يحظى بالتبجيل والتقدير إنه واضح العبارة قريب من الأذهان أبسط في الفهم وتثير بلاغته الانفعال وقافيته الإعجاب يمكن تدويره مليون مرة ولوكه كالعلكة من قصيدة إلى أخرى ومن شاعر إلى آخر بلا ملل يتسم الشعر الحر بنوع من الرفض وحتى الهجر ويعامل بمنطق السوق من طرف دور النشر وليس على أساس معيار إبداعي محض يتعمق هذا الشرخ أكثر مع مجيء ما يصطلح عليه بقصيدة النثر هنا حسب هذا القارئ ينفرط عقد الشعر تماما قياسا إلى التصور البسيط والمتطرف لمفهومه فالقافية والإيقاع هما حارسا إله هذا المعبد بدونهما يسقط أي نص يدعي الشعرية في الدنس تبقى بعض الغصة في الحلق فنتساءل كيف سنصالح هذا النوع من القراء مع الشعر الحر المسمى بقصيدة النثر أو القصيدة بالنثر كيف يمكننا أن نعيد للقارئ الثقة بهذا الجنس الأدبي الغريب الذي نسميه هو الآخر شعرا لا أعتقد أن هذا السؤال الذي يبدو مؤرقا مسألة شعرية حتى يكون الشاعر معنيا بالإجابة أكثر مما هو مشكلة القارئ وحده يتحجج هذا الأخير بكون النص الجديد منغلق على نفسه وغامض لكنه لا يدرك الذهنية المحدودة التي يبني عليها تصوره فالمسألة لا تكمن في انغلاق الشعر على نفسه وغموضه بل على العكس لفرط وضوحه الشديد فهذا الشكل الشعري لم يأت من فراغ أو فقط من رغبة في التحرر من قيد الإيقاع المفروض مدرسيا وفقهيا بل من وعي أوسع وأبعد من مساحة القصيدة وتحرك اللغة وبالخصوص من تأثره بالفنون والفلسفة والفكر وتأسسه على جوهر الحرية الفردية وإدراكه لتعقيدات العصر والرغبة في فتح أراض جديدة في التعبير وإمكانات أخرى في الخلق الفني تتجاوز ما تم وتحقق على يد شعراء الأمس فالشعر الحقيقي لا يوجد إلا في المستقبل لامتلاكه كأي فن حقيقي صفة التجاوز فلا يستقيم إبداع بلا تجاوز وإلا انتفى عنه الإبداع وسقط في التكرار الممل إن أزمة التواصل مع القارئ لم يخلقها سوى عجز هذا الأخير عن تجاوز بنية ذهنية ما زالت تعيش في الأمس ويخيفها أن تنفتح على لحظتها وعلى المستقبل قطعا ليس الشعر الحر قصيدة النثر في نموذجه الحقيقي شعرا كلاسيكيا يمارس عهرا متعمدا بالنثرية وكسر الإيقاع إنه لا يتمرد لأن الإيقاع يحد من انسياب دفقته الشعورية فقط بل لأن الإيقاع مشكلة شعرية وعائق في الأساس فالإيقاع كما نراه في بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي تعبير عن بنية ذهنية منغلقة وهذه الذهنية تنشئ خطابا معينا يختلف كليا عن الخطاب الجديد الذي يقترحه الشعر الحر والذي هو خطاب ينبني على قطيعة في المعرفة الشعرية وبناء أخرى أكثر جسارة على الخوض في أسئلة جمالية مفتوحة على ممكنات جديدة لا يستأنف الشعر الحر أي وعد طرحه الشكل الشعري السابق الذي يبدو أنه استنفذ كل إمكاناته بما في ذلك اللغة الشعرية التي أصبحت جامدة ومنغلقة بل إنه تعبير عن طفرة أو انزياح عن خط السكة إلى وجهة ومقصد ونداء فكري وجمالي آخر في مستوى أعلى بكل تأكيد كما لو انتقل المرء من الصحراء إلى القطب الشمالي حيث البيئة أخرى وشروط الحياة كما الثقافة والحياة الاجتماعية التي تتأسس عليها مختلفة تماما وبشكل جذري أحيانا فكل مستوى تعبيري يريد أن يصل إلى ما يقوله فما تسعى إلى قوله سيمفونية الفصول الأربعة لأنطونيو فيفالدي لن تتسع له أغنية شعبية إن مقصدهما وشروط إبداعهما مختلفة في العمق حتى لو كانتا في الظاهر تشتركان في التسمية باعتبارهما موسيقى يمكن للمتلقي البسيط أن تعذبه سيمفونية عوض أن تطلق بهجته ونشوة روحه وهذا مأزقه الخاص على ما يبدو وليس لقصور في أعمال الموسيقيين الذين رفعوا هذا النوع التعبيري في تماس مع العبقرية ليس على الشعر الراهن أن يصغي سوى لتحديدات فكرية وفنية لأنه مطلب روحي ومعرفي عظيم أما أزمة التواصل مع القارئ فلم يخلقها سوى عجز هذا الأخير عن تجاوز بنية ذهنية ما زالت تعيش في الأمس ويخيفها أن تنفتح على لحظتها وعلى المستقبل