لبنان وانعدام البدائل
دائماً، في حالتَي النظام القوي وغيابِ النظام، يكون سهلاً توقّع الخطوات المستقبلية. في حالة النظام القوي، يمكن توقّع قضايا من قبيل فرض الأمن والقانون وما ينجم عنهما من استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي. في حالة غياب النظام، يمكن التكهّن بحالات الفساد والانفلات الأمني وغياب العدالة وسيادة منطق الشوارع. يمكن في الحالِتَيْن رسم مسار حياة وسيناريو يومي، وفقاً لتكرار أنماط التوقّعات. في الحالة اللبنانية، المغايرة لحالتَي النظام القوي وغياب النظام، يجتمع كلُّ شيء: نظام اللانظام، توافقية طوائفية ترفع شعار العيش المشترك، وغياب التوقّع اليومي، إذ لا يمكن في لبنان التكهّن بشيء إطلاقاً. يمكن، على سبيل المثال، التخطيط لمباشرة عملٍ خاصٍّ والتغلّب على عوائق الطاقة والمواصلات والبيروقراطية والإنترنت، وإذ يحصل ما لم يكن في الحسبان، وتتبدّل أحوال البلاد 180 درجة.
لنا في ذلك شواهدُ كثيرة. ليست الأيام الحالية سوى تأكيد للتبدّلات الفجائية في لبنان. في عام 2025، يتفاوض لبنان وإسرائيل، بوجود شخصية مدنية في رأس وفديهما، في أمرٍ لم يكن يمكن التفكير به منذ أكثر من عاميْن؛ تماماً كما فوجئ اللبنانيون بما دُعي اتفاق إطار لرئيس المجلس النيابي نبيه برّي، في 2020، الذي أدّى إلى ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في عام 2022، بموافقة سياسية شاملة، في رأسها حزب الله. كذلك، قبل 14 فبراير/ شباط 2005، لم يكن أحد ليدري حجم التغيّرات في لبنان قبل اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، وما تلاه من زخمٍ أفضى إلى انسحاب القوات السورية من لبنان. في 1983، وقّع لبنان وإسرائيل اتفاق 17 أيّار، الذي وافقت عليه الحكومة والبرلمان اللبنانيان، فيما امتنع الرئيس الأسبق أمين الجميّل عن التوقيع عليه، بفعل الضغوط العسكرية السورية بقيادة حافظ الأسد، ثم انتفاضة السادس من فبراير 1984، التي قادتها حركة أمل، برئاسة رئيس البرلمان الحالي نبيه برّي، ضدّ الجميّل والجيش اللبناني، ما أدّى إلى إسقاط 17 أيار.
وفي كل رحلة عودة إلى تاريخ ما بعد استقلال لبنان عن فرنسا في 1943، سيتمظهر مزيد من الأمثلة عن التعايش الهشّ بين مفهومي النظام وغياب
ارسال الخبر الى: