اقتحم اليمين بقوة مكاتب صنع القرار في عواصم أوروبية رئيسية على وقع أزمة معيشية خانقة لغالبية الناخبين نتيجة استفحال الغلاء وانهيار القدرات الشرائية لشرائح واسعة من مجتمعاتهم ولعل من أكثر التحديات شدة التي ستواجه الزعماء الجدد ووزرائهم وفرق عملهم التصدي لزلزال الديون الجامحة الذي تلوح أمواجه العاتية في الأفق فالدين العام يقترب سريعا من أعلى مستوياته على ضفتي القناة الإنكليزية حيث كان الناخبون يقترعون لبرلمانات جديدة تمثلهم في فرنسا والمملكة المتحدة حيث مستويات الإنفاق الحكومي وعجز الموازنة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي أصبحت أعلى بكثير مما كانت عليه ما قبل جائحة كورونا وفيما لا يزال النمو الاقتصادي باهتا ارتفعت تكاليف الاقتراض كما ارتفع الطلب على موارد الخزانة العامة من الدفاع إلى معاشات التقاعد ومخصصات الشيخوخة وفي هذا الصدد نقلت وول ستريت جورنال في تقرير معمق حول أزمة الديون يوم الأحد عن اقتصاديين قولهم إن كل هذا يعني أن الانضباط المالي المتمثل بتقليل الإنفاق أو زيادة الضرائب سيكون ضروريا في هذه المرحلة في حين أن الساسة الفائزين في الانتخابات لم يجهزوا الناخبين لتقبل مثل هذه التوجهات وعلى العكس من ذلك شملت برامجهم وخطاباتهم الانتخابية خطط إنفاق جديدة وجريئة في فرنسا اقترح حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف صاحب أغلبية المقاعد في البرلمان تخفيضات ضريبية واسعة النطاق مع تراجع مسؤولي الحزب في الآونة الأخيرة عن بعض الوعود أما الجبهة الشعبية الجديدة وهي التحالف اليساري فلها أجندة أكثر طموحا تتضمن تجميد الأسعار وزيادة كبيرة في الحد الأدنى للأجور الأمر الذي يتطلب زيادة الدعم والرواتب والحد من الاعتماد على الضرائب لكن أي حزب فرنسي لم يناقش كيفية خفض العجز العام الذي ناهز 5 من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام الأمر الذي أدى إلى فرض إجراءات تأديبية بحق باريس من جانب الاتحاد الأوروبي وكان لافتا ارتفاع عائدات السندات الحكومية الفرنسية في الأسابيع الأخيرة حيث استجاب المستثمرون بقلق إزاء احتمال لجوء فرنسا بقوة إلى سوق الاقتراض وذلك بعدما خفضت وكالة ستاندرد أند بورز العالمية في مايو أيار الماضي تصنيفها الديون السيادية الفرنسية إلى إيه إيه ناقص AA وعلى الضفة الأخرى في المملكة المتحدة أشار حزب العمال الفائز بأغلبية تاريخية إلى أنه يعتزم إنفاق المزيد على الخدمات العامة بما في ذلك الخدمة الصحية الوطنية رغم أن مقترحاته الملموسة كانت متواضعة حتى الآن علما أنه في الآونة الأخيرة اتهم معهد الدراسات المالية IFS وهو مؤسسة بحثية في لندن الأحزاب الرئيسية كافة بما في ذلك حزب العمال نفسه بالتهرب من الخيارات الصعبة في البيانات الرسمية الصادرة عن مسؤوليه خلال الحملة الانتخابية هنا تنقل وول ستريت جورنال عن كبيرة الباحثين الاقتصاديين في المعهد إيزابيل ستوكتون توقعها أن يكون النمو مخيبا للآمال تماما وأن تظل فوائد الديون مرتفعة معتبرة أن هذا المزيج يبدو أسوأ من أي برلمان آخر في تاريخ المملكة المتحدة بعد الحرب الديون والعجز بالأرقام في تفاصيل الأرقام ارتفعت نسبة الدين العام في المملكة المتحدة إلى 104 من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام صعودا من 86 عام 2019 و43 في 2007 وفي فرنسا ارتفع الدين الوطني إلى 112 من الناتج المحلي الإجمالي من 97 في عام 2019 و65 في 2007 وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي أما عجز الموازنة العامة فقد تجاوز مستويات ما قبل كورونا بمقدار ثلاث نقاط مئوية 3 في جميع الاقتصادات المتقدمة الرئيسية وفقا لشركة كابيتال إيكونوميكس التي قال كبير الاقتصاديين فيها نيل شيرينغ إن ذلك يعكس جزئيا ارتفاع مدفوعات الفائدة لكنه يعكس في الوقت نفسه زيادة الإنفاق الذي لم يعد مرتبطا بوباء كورونا مضيفا ليس هناك مجالا وافرا لتوسعات مالية كبيرة حتى ألمانيا التي عادة ما تكون نموذجا لما تسميه الصحيفة الحكمة المالية فقد وقعت في فخ عجز مالي كبير في موازنتها في تدهور واضح عن الفوائض المحققة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وبعد أشهر من المفاوضات الصعبة أعلن الائتلاف الثلاثي المنقسم بزعامة المستشار أولاف شولتز يوم الجمعة الماضي الاتفاق أخيرا على صفقة موازنة العام المقبل بما يشمل قواعد اقتراض صارمة مع توفير بعض التدابير لتنشيط النمو الاقتصادي الفاتر وتعزيز الإنفاق العسكري ورغم العجز الهائل في إيطاليا تجنبت رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني من حزب إخوان إيطاليا الشعبوي اليميني المتطرف حتى الآن ثورة المستثمرين من خلال تخفيف خطط الإنفاق وتبني لهجة تصالحية تجاه بروكسل التي أعلنت أن إيطاليا مثل فرنسا تنتهك المبادئ التوجيهية للعجز لكن مثال ميلوني قد لا يمثل ما يحدث إذا تولى الشعبويون مناصبهم في أي بلد آخر فقد وجدت دراسة أجريت عام 2023 على 51 رئيسا ورئيس وزراء شعبويا بين عامي 1900 و2020 أنهم يميلون إلى التعثر اقتصاديا وخلص الباحثون مانويل فونكي وموريتز شولاريك وكريستوف تريبيش من معهد كيل للاقتصاد العالمي وهو مركز أبحاث ألماني أنه على مدار 15 عاما انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي والاستهلاك بأكثر من 10 في ظل الحكومات الشعبوية مقارنة بالحكومات غير الشعبوية بينما انخفضت أعباء الديون كما اتجه التضخم إلى الارتفاع الديون الأميركية أسوأ وضع الديون في الولايات المتحدة أسوأ منه في أوروبا فقد ارتفع دينها العام إلى 123 من الناتج المحلي الإجمالي من 108 عام 2019 وفقا لمقياس واسع النطاق لصندوق النقد الدولي وارتفع الدين الفيدرالي المملوك للقطاع العام من 78 إلى 97 في الفترة نفسها ومع ذلك لم يعط أي من المرشح الرئاسي الجمهوري المفترض دونالد ترامب والرئيس الديمقراطي جو بايدن الأولوية لتقليص هذه النسبة كما لا توجد ضغوط سياسية تذكر للتحرك على هذا الصعيد