لم يكن مفاجئا اتساع ظاهرة المكوعين في سورية بغض النظر إن كان التكويع صادقا أي يعبر عن حالة صدق لم يكن صاحبها قادرا في السابق على التعبير عن حقيقة مواقفه أو مزيفا يعكس حالة من الانتهازية الرخيصة فالحالتان موجودتان في سورية وإن كانت الثانية الأكثر انتشارا خصوصا مع الشخصيات العامة وتحديدا الممثلين والمغنين شكل الفن مجالا هاما للنظام السوري خلال حكم الأسدين فوضع ثقله في الهيمنة على المجال الفني بطريقة ذكية سامحا بهوامش تعد عالية جدا في بلد يهيمن فيه نظام دكتاتوري قاس ورث وفي ظل توجيهات سياسية مضمرة للأعمال الفنية مسرح دراما سينما نشأت صناعة فنية في سورية ونشأ معها نجوم سرعان ما وجدوا أنفسهم ضمن المجال التداولي الفني والسياسي للنظام فنشأ لا شعور أو ربما شعور لدى الفنان يربط كينونته الفنية بكينونة النظام السياسية لم يؤد غياب المساحة بين النظام السياسي وحركة المجتمع الثقافية والفنية في الحالة السورية إلى قتل حالة الإبداع الفردية والجماعية بوصفها فعلا فنيا في ذاته وإن أدت إلى قتل الرسالة الفنية باعتبارها حاملة مضامين معرفية وقيمية عامة مهمتها النهوض بالمجتمع والتعبير عن تطلعاته ولما كان الفن يستطيع النطق بما لا يستطيع أن ينطق به الأفراد والجماعات فإن الشخوص الفنية وجب بالضرورة وفق النظرة المعيارية أن تكون انعكاسا لمضمونها الفني خصوصا تلك القامات الرفيعة في عالم الفن الخوف من القمع والإهانة والسجن حقيقة لا يمكن إنكارها لكن ذلك ليس مبررا للتماهي مع النظام فحسب بل ذهاب بعضهم إلى حد التزلف المبالغ به مناسبة هذا القول ما يحدث في سورية منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر كانون الأول الجاري من انقلاب حاد في المواقف السياسية واستخدام عبارات تثير الغثيان والملفت للانتباه في الحالة السورية خصوصا لدى الأسماء الفنية الكبيرة التي دافعت بقوة عن النظام ظاهرة يمكن تسميتها تقزيم الأنا في مفارقة غريبة مع ظاهرة الإعلاء الوهمي للذات عند النظام السوري على سبيل المثال ما قاله الفنان دريد لحام في مقابلته على قناة العربية إنه لم يستطع في أثناء حكم الأسد التعبير عن مواقفه ولو فعل ذلك لكان مرميا في المعتقل وعندما يقول إن الأسد حول سورية إلى الرأي الأوحد بلا أي معارضة فإنه قد صغر ذاته ووضعها مع عموم الناس وتوجيه الانتقاد إلى الخواص ليس مثله عند العوام لو صدر هذا الكلام عن شخص من عموم الناس لكان مفهوما ومبررا أما أن يصدر عن قامة فنية عالمية مثل دريد لحام فهذا أمر غير مفهوم وغير مبرر فالشخصيات العامة الكبيرة كالمفكرين والسياسيين والفنانين والأدباء وجب بالضرورة أن تكون لديها منظومة معرفية تتولد عنها بالضرورة منظومة قيمية تأخذ موقفا من العالم الذي تعيش فيه فكيف الحال بنظام قتل الحياة السياسية والاقتصادية في سورية وارتكب جرائم مروعة بحق الشعب لعقود خلت تنهار الرسالة الفنية حين ترتبط بسياسة الأنظمة الحاكمة ينطبق الأمر على المغنية الكبيرة ميادة الحناوي التي مثلت ما بقي من زمن الفن الماضي الجميل فوقفت داعمة للنظام السوري طوال حياتها بل وغنت للأسد الأب وأعلنت أن ليس لديها مانع من أن تغني للأسد الابن رغم المجازر التي ارتكبها غير أنها سرعان ما قلبت مواقفها السياسية لتعلن بعد هروب الأسد أن الشعب السوري مر بحقبة كثير صعبة وطاغية مثلي مثل الناس أنا كنت يعني ما بنعرف شي أبدا وهذا كلام غريب وغير مفهوم لقامة فنية أن تقول إنها لا تعرف شيئا عما جرى في سورية وهي إذ فعلت ذلك فإنها على غرار دريد لحام موضع نفسها في مكان متدن على المستوى المعرفي لا يستقيم مع إنسان ذي معرفة بسيطة ظاهرة دريد لحام وميادة الحناوي وأيمن زيدان وسوزان نجم الدين المتطرفة مع نظام الأسد وعارف الطويل قبل حذاء عسكريا لأحد الجنود في جيش النظام وغيرهم ليست ظاهرة وعي معرفي مطابق للواقع نشأ فجأة بعد وعي زائف ظل قائما عقودا بل هي حالة انتهازية رخيصة من جهة وتعبير عن الخوف من جهة ثانية وفي الحالتين تعبر الظاهرتان عن وضع متدن لهذه الشخوص على المستويين المعرفي والقيمي الخوف من القمع والإهانة والسجن حقيقة لا يمكن إنكارها لكن ذلك ليس مبررا للتماهي مع النظام فحسب بل ذهاب بعضهم إلى حد التزلف المبالغ به ليس الخوف هو سبب هذه الحالة بقدر ما هو حجة ترفع ووسادة يمكن الاتكاء عليها لتبرير المواقف والسلوكيات ففي أفضل الحالات كان يمكن لهؤلاء الفنانين الاكتفاء بالصمت أو على الأقل الحديث عن الواقع السوري بلغة عامة تعكس الحالة التي وصلت إليها البلاد من دون تبرير أفعال النظام وتفخيم شخص الأسد بإضفاء الصفات الأخلاقية والرجولية عليه يحسن بالفنانين السوريين الصمت ومتابعة تطورات الأوضاع في بلدهم وأن تكون أقوالهم وسلوكهم وأعمالهم الفنية المقبلة تعبيرا عن أهداف المجتمع تزداد المفارقة السورية في شخص الممثل باسم ياخور الذي غادر سورية فور سقوط النظام وقد وصف عبر وسائل التواصل الاجتماعي الواقع السوري الجديد بـ البطاطا في إشارة إلى ما يعتبره مستوى متدنيا وسيئا وصلت إليه سورية بعد 8 ديسمبر كانون الأول الحالي هنا نحن أمام فجوة أو شيزوفرانيا معرفية صارخة فياخور اعتبر الواقع الجديد سيئا ومتدنيا في وقت لم يستطع أن يرى خلال العقود السابقة سيما منذ عام 2011 حجم الاستبداد والقتل اللذين مارسهما النظام السوري بحق الشعب ختاما تنهار الرسالة الفنية حين ترتبط بسياسة الأنظمة الحاكمة وإذا كانت هذه ظاهرة قد وسمت سورية بشكل عام خلال حكم الأسدين فإن المرحلة المقبلة تتطلب الارتقاء بالفن إلى مستواه الإنساني باعتباره انعكاسا لكينونة المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية يحسن بالفنانين السوريين التزام الصمت ومتابعة تطورات الأوضاع في بلدهم وأن تكون أقوالهم وسلوكهم وأعمالهم الفنية المقبلة تعبيرا عن أهداف المجتمع ومتطلباته بدلا من أن يتحولوا إلى بوق جديد تجاه الحكام الجدد عليهم أن يتخلصوا من إرث الأسد وأن ينظروا إلى ذواتهم بما تستحق ووضعها في الموقف الصحيح لم يكن الفن في أي من أيام التاريخ يقتصر على الجانب التصويري الجمالي فحسب بقدر ما كان موقظا للشعوب وسلطة لها من القوة والفعل على التأثير تساهم في رفع مستوى الشعوب قال غوستاف لوبون إن التجربة تكاد تكون الطريقة الوحيدة لترسيخ حقيقة ما في نفوس الجماهير وتدمير الأوهام التي أصبحت خطيرة وفي حالتنا السورية التجربة السياسية الجديدة التي بدأت البلاد تشهدها لا بد أن تكون الطريقة الوحيدة لتغيير ما بقي في عقول ونفوس الفنانين ممن وضعوا أنفسهم في دائرة منافية لما وصفه هيغل تحقق المطلق في التاريخ