فلسطين وأميركا الشمالية تقاطعات النضال المعرفي ضد الاستعمار

٤٣ مشاهدة
منذ بداية معركة طوفان الأقصى في تشرين الأول أكتوبر الماضي انتشرت مقاربات ومقارنات كثيرة ما بين تاريخ الاستعمار الاستيطاني في أميركا الشمالية أو جزيرة السلحفاة كما يسميها السكان الأصليون وتاريخ استعمار واستيطان فلسطين ومع تقاطع السرديات نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور ورسومات ومقاطع فيديو مركبة توزاي بين ما حدث للسكان الأصليين في أميركا الشمالية على مدى أربعة قرون وما يحدث مع الفلسطينيين وقد أنتجت هذه الموازاة التاريخية حالة من الإدراك الثقافي الجزئي في العالم لما يقوم به الاستعمار الاستيطاني كما فتحت نافذة جديدة للنظر إلى امتداد الاستعمار الأوروبي واستمراره بأشكال مختلفة حتى اليوم في مختلف بقاع الأرض غير أن الملاحظ في اللغة المستخدمة في هذه المقاربات والمقارنات تسمية سكان أميركا الشمالية الأصليين بـالهنود الحمر وهي تسمية لا تنحصر دلالاتها على محو ثقافات وآداب شعوب متعددة فحسب بل تكرس المنظور الكولونيالي الذي بني على إبادة وقمع وتهميش هذه الشعوب وبطبيعة الحال ثمة من يستخدم هذه التسمية ويحاول تبريرها بكونها متعارفا عليها في الأوساط الثقافية العربية نافيا بذلك عن نفسه صفة العنصرية ومستدلا بأسماء باحثين وأكاديميين استخدموها في مقالاتهم وكتبهم وبالتالي تسقط تهمة العنصرية عن مستخدميها لأن علاقة الدال والمدلول هنا يقومها توظيف المصطلح لإيصال المعلومة لا استخدام المصطلح لتدليله على دونية السكان الأصليين من ناحية أخرى أصبحت الصوابية السياسية اليوم تهمة جاهزة لكل من يحاول فتح نقاش المصطلحات المعرفية المستخدمة في توصيف شعوب عانت ولا تزال من الاستعمار وتبعاته صارت هذه التهمة التي يستخدمها المحافظون الجدد في الغرب كسلاح ضد كل قراءة تاريخية أو معرفية تناقض أو تخالف سردية المركزية الأوروبية على مستوى التطور الثقافي والحضاري آلية دفاعية لكثير من مدعي محاربة الاستعمار المعرفي في العالم العربي وليس تلاقي خطاب المحافظين الجدد مع متصدري مشهد مواجهة الاستعمار المعرفي بسردية استعمار أميركا الشمالية وطبيعة نضال السكان الأصليين إلا دليلا على فعالية الاستعمار المعرفي وتغلغله في الخطابات العربية بمختلف توجهاتها الأيديولوجية إن صناعة ماهية الهندي الأحمر جزء لا يتجزأ من صناعة هوية الاستعمار الاستيطاني الأميركي الكندي والسردية التاريخية لأميركا الشمالية فـالهندي الأحمر في المخيال الاستعماري هو كائن من الماضي لم يرتق في سلم الحضارات والثقافات ولم يتطور معرفيا منذ آلاف السنوات كما أنه لم يستطع تطوير الأرض الذي عاش عليها لقرون ولا تهذيب طباعه وتغيير مدركاته إلا مع قدوم المستعمر الأوروبي اليوم رغم الاعتراف الضمني بما جرى على السكان الأصليين من إبادة ووحشية وقمع وتجويع وتهجير واستلاب ثقافي تعاد صناعة الهندي الأحمر بصور متعددة تتماهى مع توطيد قوام المنظومة الاستعمارية ثقافيا واقتصاديا في دراسة بعنوان العقلانية الدائمة لعقيدة الاكتشاف في كندا تحلل الباحثة في جامعة ألبرتا سيلين بوليو البنية المعرفية التي أسسها المستعمرون الأوروبيون لتبرير استعمارهم ونهبهم شعوب العالم من جهة ولمسار تشكل أطوار هذه البنية في المنظومة الحديثة من جهة أخرى حيث تجادل الباحثة بأن منظومة الاستعمار الاستيطاني الحديثة تتجاوز إلغاء أحقية السكان الأصليين في أرضهم وذلك من خلال إعادة توطينهم في المنظومة الاقتصادية القائمة من دون المساس ببنية المنظومة وسيادة الحكم الذي أسس على قواعد الاستعمار وتتناول بوليو مفهوم الحاكمية الاستيطانية الذي أبدعه الباحثان الكنديان أندرو كرسبي وجيفري موناغان لدراسة وتقييم آليات الحكم والأطر الأمنية التي استخدمتها الحكومة الكندية ضد شعوب الألغونكوين في بحيرة باريير يثبت الاستعمار المعرفي تغلغله في الخطابات العربية يستند الباحثان في عملهما إلى مفهوم ميشيل فوكو للحاكمية الذي يبين طبيعة الأطر الأيديولوجية والتقنيات التي توظفها وتستخدمها المؤسسات والطبقات الحاكمة في تحديد وتنظيم وتوجيه تراتبية علاقات الحكم وسلوكيات الجماعات الشعبية المحكومة وتكمن أهمية مفهوم الحاكمية الاستيطانية حسب بوليو في أنه يميز بين المجتمعات الاستعمارية التي كان فيها الأوروبيون أقلية كأفريقيا على سبيل المثال والمجتمعات التي شكلوا فيها أكثرية حاكمة فرضت بمختلف الآليات سيطرتها على الموارد والحكم ففي حالة كندا تمثيلا لا حصرا لا يعد إلغاء سيادة السكان الأصليين على الأرض ضرورة لتوطيد وتوكيد قيام منظومة الاستعمار الاستيطاني واستيلائها على أراضي السكان الأصليين وحسب بل يعمل على إعادة إنتاج وتصدير أحقية المستوطن في سيطرته وحكمه هكذا يؤصل المستعمر فكرة عقيدة الاكتشاف التي ابتدعتها الكنيسة عام 1240 ومن ثم فعلها البابا ألكسندر السادس عام 1493 لاستعمار أميركا الشمالية فالحاكمية الاستيطانية لا تحتاج إلى الاستناد إلى عقيدة دينية لتبرير نفسها فأسس هذه العقيدة جزء لا يتجزأ من المنظومة الاستيطانية وبالتالي بنية العلاقات الاجتماعية وآلية العمل المؤسساتي والقانوني تتفاعل لضمان بقاء هذه المنظومة واستمرارية سيادتها وهذا ما يمكنها من إعادة إنتاج هيمنتها رغم التناقضات الكثيرة فالتناقض جزء من قوام المنظومة نفسها وإلغاء هذا التناقض يعني تقويض القواعد التي بنيت عليها المنظومة لذا نجد أن تمثيل وتصوير السكان الأصليين يعيد إنتاج وتأطير الصورة الاستعمارية عنهم رغم تغيير اللغة المستخدمة وكشف التاريخ الاستعماري والاعتراف بالجرائم التي ارتكبها المستعمرون بحقهم في هذا الإطار يؤكد الصحافي الأنشنابي نسبة إلى شعب الأنشنابي وأستاذ الصحافة في جامعة كارلتون دنكن مكيو أن الصحافة الكندية والأميركية ما زالت تعيد إنتاج الهندي الأحمر بمواصفات الصورة الاستعمارية التي كرستها هوليوود ويشير مكيو في مقالته ما الذي يتطلبه الأمر ليصير السكان الأصليون خبرا صحافيا إلى دور الإعلام في اجترار الصور النمطية عن السكان الأصليين وإعادة تصديرها في قوالب مختلفة لكنها محصورة في مناطق معينة يصورون فيها على أنهم طبالون أو سكارى أو محاربون قدامى أو ضحايا أو مجرد جثث هامدة ويختم مقالته بقوله ربما نقول وبكل صفاقة إن الهندي الجيد هو الهندي الميت مستفزا الذهنية الاستعمارية التي أنتجت هذه المقولة ومستنكرا لها ألا تذكرنا هذه المقولة بمقولة الصهيونية العربي الجيد هو العربي الميت لا شك أن تلاقي شعارات الاستعمار الاستيطاني في إلغاء سكان الأرض الأصليين وثقافتهم وهوياتهم ليس محض صدفة كما أنها ليست مصادفة إعادة تدوير وتداول مصطلح الهندي الأحمر وتشويه تاريخه ونضاله وثقافته حول العالم فالمنظومة العالمية قامت على قواعد وفكر الاستعمار الأوروبي وهيمنته واستمراريته والهيمنة المعرفية وما تتضمنه من توصيف وتعريف وتشويه تاريخ وثقافة جماعة بشرية تناهض هذه المنظومة ليس إلا طورا من أطوار هذه المنظومة وآليات عملها وتفاعلاتها هكذا لا عجب إذا أن تكون صورة سكان أميركا الشمالية الأصليين في المخيلة العربية والوعي الجماهيري العام هي صورة الهندي الأحمر تماما كما هي صورة الفلسطيني في الإعلام الغربي وذهنية كثير من الشعوب الضحية أو اللاجئ أو الفقير أو الدبيك أو الإرهابي وربما في أفضل الأحوال الميت بلا بيت ولا أرض ليس استرجاع صورة الفلسطيني اليوم في الإعلام الغربي إلا إعادة إنتاج لصورة الفدائي أو الضحية في المخيال الاستعماري المهيمن لذا نجحت البروباغندا الصهيونية بعد السابع من تشرين الأول أكتوبر 2023 ومعها وسائل الإعلام الغربية في تكريس ماهية الإنسان الفلسطيني وثقافته وتاريخه ضمن إطار موجود مسبقا وما تدوير صورة السكان الأصليين في العالم العربي سوى امتداد لمنتجات منظومة الاستعمار كاتب وشاعر من السعودية

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح