غسان مفاضلة ذاكرة الفنان وحدوسه

٤٣ مشاهدة
يجذبك عند دخولك معرض أثر على أثر للفنان والناقد التشكيلي الأردني غسان مفاضلة 1964 في المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة بعمان عمل فني يتألف من ستة أعمدة خشبية متوازية مطلية بألوان وأكريليك وثبتت عليها زنبركات نوابض معدنية تذكرك باستخدامها في الأثاث قبل نحو ثلاثة أو أربعة عقود وربما يندر العثور على تصميمها نفسه اليوم الزنبرك عنصر مألوف لدى العديد من زوار المعرض الذي افتتح منتصف الشهر الجاري ويتواصل حتى الثلاثين منه قبل أن يعاد استعماله وفق علاقات بصرية جديدة مع عناصر أخرى لتشكيل عمل فني يحمل عنوان 67 لاحتواء كل عمود من الأعمدة الستة ثقوبا سبعة في إشارة إلى مقاييس النزعة المركزية السبعة في علم الإحصاء الوسط الحسابي الوسط الموزون الوسيط والمنوال لكن تكسر أحد الأعمدة أفقده ثقبين ما استدعى من الفنان كسر هذه المعادلة الرياضية جماليا في عمود ثان مبقيا ثلاثة ثقوب فقط تمتلك المادة إغراءات تحفز الفنان على خلق حواره معها حوار مفتوح بين مفاضلة وبين المادة الخام التي يتعامل معها ضمن عملية متراكمة دائمة وتشكل جزءا أساسيا من ذاكرة العمل الفني وتستفز المتلقي على إعادة تصورها وتمثلها بوصفه شريكا في تنفيذه وهو استدراج متقصد من أجل تمكين أي متلق من تخيل اقتراحات جمالية إضافة أو حذفا أو تعديلا على تكوين العمل وهنا تتجلى اللعبة في إعادة بناء لا تنتهي لعبة تفترض الذهاب نحو الفن بلا تخطيط مسبق أو استنادا لمفاهيم وأفكار جاهزة إذ تمتلك المادة إغراءات بحسب وصف الفنان تحفزه على خلق حواره معها الذي قد يطول لسنوات عديدة إغراءات تتصل بتكوينها الطبيعي وشكلها وأحيانا بالصدأ عند تعامله مع الحديد المادة الأثيرة لديه نظرا إلى مطواعية تشكيله باليد أو بالماكينة كما تبرز طبقات الزمن بوضوح على سطحه توحي بأثر المادة خلال عملية تشكلها منذ أن كانت في الطبيعة إلى أن وصلت إلى صالة العرض الأثر الذي يعيد تصور المكان الأول الذي وجدت فيه المادة الخام ثم في انتقالها إلى مشغل الفنان حيث تكتسب شكلها وحركتها من دون قسر وإجبار مسبقين وتندغم فيها قصة تكوين العمل ضمن سياق يحفظ روح المادة روح الطبيعة الأم متفاعلا مع حدوس الفنان واجتهاده وتساؤلات المتلقي التي تتدفق حول كل التموضعات الحقيقية والمتخيلة للمادة المواد المستخدمة التي أسست سردية العمل في لحظة عرضه وفق هذا المنظور للفن فإن المادة تصنع حضورها عبر شكلانية تقودها عملية الإنشاء التي تعني تأملا عميقا في اختبار احتمالات تدوير العناصر وإعادة تركيبها بتلقائية وعفوية في التجريب تؤول إلى الاختزال والرغبة في استكشاف تلك البدئية في معنى الخلق رغم دلالاته المعقدة والمختزنة لخبرات ومرجعيات بصرية متعددة كما نلاحظها في عمل انعكاس صوت وصدى حيث أنشأه من ألواح من الخشب تحتوي دوائر مفرغة فوق الخشب مع الأكريليك في هذا الانعكاس نسترجع في تكوين العمل الذي يقترب من عمران المدينة محاط بسواد فاحم تلك الصلة القلقة بين الإنسان ووجوده المديني وسط تاريخ من الحروب والاضطرابات والاغتراب وغيرها من التصورات المحكومة لبنية تجريدية محتشدة بالتخيلات والانزياحات عن الواقع الذي اشتقت منه أو تسعى للاقتراب منه تجريد لا ينفصل عن بحث محموم في جوهر المادة وتحولاتها يتكثف في عمل آخر بعنوان مدارات نفذه مفاضلة من مواد مختلطة تتوسطه دائرة حمراء اللون تحطيها دائرة بيضاء أخرى ويلفهما الأزرق وفوقها مئات شطرات أجزاء من الستائر على بعضها رمال وبلاستيك مطحون ترمز إلى نشوء الكون وتقادم الزمن وحلوله في الليل والنهار وطوفان الإنسان حول دوائر في مدارات طقسية وغيبية وكل ما ينبعث عنها من إحساس بما وراء الطبيعة يتوقف الزائر طويلا عند الأعمال التي تحمل عنوان المعرض أثر على أثر مع تبلور أعمق للمقاربة البصرية الأساس لدى مفاضلة في تعاقب الموت والبعث في المادة التي تتصدع وتتشقق وتتحور على السطح وما تنتجه من حدود مرئية وغير مرئية وحرية لا نهائية في تدوير الأشياء وتوليد حركتها وإيقاعاتها في نسق جمالي متفرد لا يقع في فخاخ التقليد والمحاكاة ودون تكلف وعناء في طرح المضامين الفكرية والسياسية يركب الفنان عملان باسم نهر الأردن في الأول تظهر أسنان مناشير حديدية مصفوفة فوق الخشب حيث زرقة الماء بين ضفتين شرقية وغربية بلا استطرادات حول الاحتلال المهجي المتوحش الذي يتربص بالشعبين في كلتا الضفتين بينما يضع مفاضلة تشابكات من الفولاذ على خشب وزنك في العمل الثاني على خلفية زرقاء مثبتا المقولة ذاتها أيضا وبالمصادفة يعرض بين العملين شاهد المكون من حديد وإسمنت وزنك وزجاجي في أبلغ مشهد للتعبير عن مئة عام من الشهادة على العدو وتداعيات الصراع معه في عمل نصبي يرتفع مترا وخمسة وسبعين سنتمتر عن الأرض وربما كان شاهد قبر من آلاف احتضنتها البلاد ثلاثة منحونات في وسط الصالة أولها لجسد يختزله الحديد بملامحه المجردة التي تحتفظ بعلامات الزمن والثانية لـأوديب في عمان اسم لجسد آخر من الحديد بينما تحط العنقاء بتعبيرات تتمزج بين بشري وطائر وجذع شجرة ينشغل مفاضلة في تشكيلها بجوهر الجسد كما في أعمال أخرى بالمعرض بلا تمييز لحدود فاصلة بين الذكورة والأنوثة حيث الحدة والخشونة تتلاقى مع النعومة والرقة ورشة عمل أنشأها الفنان منذ التسعينيات مجاورا بين الكتابة النقدية والممارسة الفنية ومخلصا لهواجس اختبرها حول مسائل حرجة مثل ماهية الفن واشتباك الفن مع البيئة والمحيط ووظائف الفنون المعاصرة وانعكست في مقالاته الصحافية وكتابه خزائن المرئي مشهد نقدي في الفن العربي المعاصر 2017 ومعارض معدودة ارتضى إقامتها تترجم ما اجترحه من علاقات بصرية جديدة ولذته في اكتشافها

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح