ما يصنع عبقرية أدبية هي أدوات يمتلكها المبدع وتأتي من داخل صنعة الفن مثل الأسلوب واللغة أو اجتراح أشكال أدبية أو إيجاد معادل فني لواقع شائك كما أن العبقريات الفارقة هي نتاج لتراكم تلال الأعمال والتجارب والمدارس الأدبية وجيوش موظفي الأدب وتأتي لتقطف حصاد من سبقها تمثل العبقريات المشهود لها ثقافة عصرها وتطل على آخر وتمثيلها لما هو أوسع منها مبني على أساس فني على نصوص قوية بارعة تختزل تجارب كبيرة وتلهم كتابا آخرين على مستوى الثقافة العربية إخال أن الروائي والقاص والصحافي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني 1936 1972 الذي تصادف اليوم ذكرى اغتياله على يد الاحتلال الإسرائيلي واحد من تلك العبقريات التي عرفتها الثقافة الفلسطينية والعربية كلها إذ يكفي قراءة قصة من قصصه ليجد القارئ لديه صلابة الموضوع واختزال الفكرة وإشارتها إلى ما هو أوسع منها لا حاجة إلى الاستدلال الأدبي طويلا لتأكيد أهمية كنفاني الفارقة إذ ليس أمضى من اغتيال الصهاينة له إشارة إلى خطورته بوصفه أديبا ألمعيا وفنانا وقلما حرا شغوفا بعدالة قضيته إلى جانب نضاله السياسي تخلص قراءة فاحصة لأدبه إلى أن أهميته ليست في عدالة الموقف فقط بل في فنيته أيضا وهما متلازمان في أدب كنفاني الطائر الذي استمر يضرب بجناحيه الجدران ليس سوى الإنسان الفلسطيني إذا اغتالت إسرائيل كاتبا نجما وهو في السادسة والثلاثين من عمره بتفجير في بيروت وكان ما يزال لديه الكثير ليكتبه ويقوله نيابة عن شعبه خصوصا أنه امتلك ناصية الفن وقد جاء من قلب الصنعة الفنية والتجربة العامة بهذا كان خطره على إسرائيل مثل البارود إذ ليس بعيدا عنه ما قدمه إدوارد سعيد 1935 2003 للقضية الفلسطينية يضاهي ما قدمته جيوش عربية كاملة دفعتني قراءة قصة لغسان كنفاني إلى التفكير فيه باعتباره عبقرية محققة وأدها الاحتلال والقصة التي ألخصها الآن منشورة ضمن المجموعة القصصية عالم ليس لنا وهي بعنوان جدران من الحديد موقعة في بيروت سنة 1963 وتتحدث عن عصفور حبيس قفص يضرب الجدران بصورة باسلة بجناحيه طوال الوقت من غير أن يهدأ يقول أحدهم للطفل الذي يأسر العصفور وقد جاءه هدية من عم بعيد بأن العصفور يتعرف على منزله الجديد ويحتاج إلى ثلاثة أشهر حتى يعتاد عليه يغير الطفل القفص يحضر قفصا آخر أوسع لكن العصفور يستمر بطيرانه الغضوب الدائب ويقول أحدهم للطفل إنه أخطأ بتغيير القفص لأنه مع المنزل الجديد للعصفور خسر الوقت الذي مضى في اعتياده على المنزل الأول لكن كان الطفل يهتم بأن ينجز للطائر سكنا واسعا جميلا يدفعه إلى رفض الحرية إذا ما فتح له القفص يوما كان الطفل يحاول رشوة العصفور بالمنزل الجديد الواسع وما حدث أن الحسون توقف عن الحركة ليس لأنه ألف السجن ليس لأنه ألف المنزل المسور بالقضبان وإنما مثلما يقول أحدهم للطفل لأنه يحتضر لم يقدر الحسون على اعتياد الحياة داخل القفص لم يقدر الاعتياد على الحياة المسيجة ورفاهيتها لا تعنيه فالحرية عند الطائر تجربة لا تعوض لا تستبدل لا يستعاض عنها ولا يعتاد على حياة أقل منها الطائر رفض الترويض مات وهو يضرب بجناحيه الغضين ببسالة جدران السجن الحديدية وأنا أبحث عمن يكون هذا الطائر لم أجد معادلا له في قصة الكاتب الفلسطيني إلا الإنسان الفلسطيني الذي استمر يضرب الأسوار استمر بجناحيه يضرب الجدران التي فرضها عليه الاحتلال ولا يوجد ما يمنع أن يكون الطائر الذي قتلته محاولاته الوصول إلى حريته طفلا من غزة أو الناصرة أو القدس طفلا قتله الاحتلال روائي من سورية