غزة حين يكتب البحر مرثيته الأخيرة
في هذا الصباح أنا كلُّ شيء.
أنا كل شيء في هذا الصباح؛ كل شيء في هذا الصباح أنا!
اليوم تفتح لي اللغة نافذتها المعلقة في الهواء. يتدفّق الريح حاملاً سيلًا من الأحاسيس الطفولية التي تدغدغ جلدي، وتلاطف طيفها تعابير وجهي المتعبة. تتسلّل العواطف بكل تناقضاتها وعلتها: بعضها يرفعني كأرجوحة تتمايل أجنحتها مع انسياب الهواء، وبعضها يشدني بخيوط الشمس ويلقي بي خلف الغيوم. علها تنفس عن الأفكار المتصارعة داخل رأسي؛ تلك التي تتسابق شاردة وواردة تحت مقصلة الموت المضلة، فتمنحني طابوراً من السعادات الناضجة والدهشة المنتظرة لشهقة صارخة، وعلى امتدادها تتدلى حبال النجاة. عندها فقط أدركُ أنني لا أملك إلا أن أكون كلّ شيء دفعة واحدة في هذا الصباح.
تردفني نسمات الهواء إلى بحر غزة؛ ألهو عالقة في فم الموت، إلى لوحة تتلاطم فيها الأمواج فأبدأ أتراقص مع حركاتِها الانسيابية. مع كلّ حركة تحلّقُ دموعي صعوداً وهبوطاً، تشكّلُ سلّماً موسيقياً يلملم فتات ذكرياتي التي أعدمت في هذه الحرب. يداي تدقّان الطبل بأعواد ثقابٍ مع ارتداد الموج كلما ابتلعت موجة أختها، فينهمر صوت كالمفرقعات يتوزّع بريقه في ليلة رأسِ السنة، صوت يعلن الموج في فرقعته اشتياقهُ غضباً؛ فإذا به يباغته بابتلاعه قبل أن يبتلعَني. واليوم أبوحُ للكلّ العربي وللعالم المتحضر أنني سئمت أن أكون الطُّعمَ الذي يبتلَع على مدى سنين من حياتي المثقلة بالآهات، المشبعة بالحروب، الممتلئة بالثقوب.
أقسمُ: إنه لحن أرهقني ترديده حتى المقت.
أغنية مبجلة بالتيه، غارقة في الحنين،
مشبعة بالرغبة في كل شيء، ثم تعود إليّ بلا شيء!
تتراكمُ عشوائيتي فتمتد الأماكن التي أعبرها وتعبرني؛ أزورها فتزورني، أخطو إليها فتطرق مدينة روحي. تتجول بين أشواقي وأوجاعي، بين نكستي وقوّتي، بين سعادتي وأحزاني، بين سخطي وإيماني. تخاطبني الشمس في غروبِها. يا للدهشة! غادرتها قبل اثنين وعشرين شهراً ولم تُبقِني؛ فما زالت تحتفظ بالوقت الذي كان يجمعنا. اثنان وعشرون شهراً كأنها ليل طويل يمتنع عن مرافقة الصباح؛ تمدني بخيوط النجاة حين ظننت أنني لن أنجو، وتهديني من جديد لوحة تتمايل ألوانها.
ارسال الخبر الى: