يشير الموسيقي عيسى بولص إلى أنه كانت للفلسطينيين ما قبل النكبة مفاهيم متعددة لتطور الهوية السياسية والثقافية ما انعكس على الموسيقى الفلسطينية بشكل أو بآخر ما بين تبني نماذج أوروبية وتطويعها أو العودة إلى البداوة باعتبارها الأصل لافتا في محاضرة أقيمت له بعنوان الموسيقى في فلسطين بين التعبير الفني والمقاومة والشعبوية والليبرالية الجديدة إلى أن الموسيقى في فلسطين في حقبة الاحتلال البريطاني كانت جزءا مما يمكن وصفه بحالة النهضة التي بدأت في الانتشار بالعالم العربي انطلاقا من مصر وإن كانت فلسطين عمدت إلى إنتاج أنماطها الموسيقية الخاصة بعيدا عن الهيمنة المصرية يلفت بولص في المحاضرة التي أقيمت في قاعة مؤسسة عبد المحسن القطان في مدينة رام الله أخيرا إلى أن إصدارات الموسيقى الفلسطينية الخاصة بدأت تطفو على السطح منذ عشرينيات القرن الماضي وبرزت منها أسطوانات رجب الأكحل ابن يافا وثريا قدورة ابنة القدس وحين أنشئت إذاعة هنا القدس عام 1936 وبعدها الشرق الأدنى عام 1941 بات حضور فلسطين على الخريطة الموسيقية العربية طاغيا فهي لم تعد فقط محطة محورية في زيارات كبار الفنانين بل مقرا لأهم الإنتاجات العربية تطرق بولص إلى تجربة الموسيقي والمنتج الفلسطيني صبري الشريف الذي كان رياديا لجهة تقديم أنماط موسيقية جديدة على المستويين الفلسطيني والعربي فاتجه إلى تقصير مدة الأغنية ومحورتها شعريا وموسيقيا حول ثقافة الشرق الأدنى بعيدا عن سيطرة مصر على الموسيقى العربية لقناعته بأن تراث الشرق الأدنى الشعري والموسيقي يتكئ بالأساس على المعنى أكثر من الشكل ليعرض بعدها تسجيلات نادرة من ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي من أرشيف إذاعة الشرق الأدنى وأول هذه التسجيلات كانت أغنية الأطفال حبيني يا ست الدار وهي باللهجة الدارجة في يافا وصيغت كما وصفها بولص موسيقيا بشكل يعكس ثقافة واسعة مجددة ومتجددة بعزف متقن وتوزيع مبني على مفاهيم موسيقية تستدعي اكتمال الهارموني تلتها أغنية العيد ذات النمط الكنسي الديني إذ يشير بولص إلى أنه منذ مطلع القرن التاسع عشر كان ثمة توجها لاجتذاب مسيحيي الشرق الأوسط العرب نحو الكنائس الأوروبية عبر تعاليم الكنيسة بما فيها النمط الغنائي الكنسي مشيرا إلى أن أغنية العيد الفلسطينية اتكأت على لحن غربي عثر عليه في مطبوعات الكنيسة الإنغليكانية في عام 1859 إذ كان يعتمد على هذه الألحان مع الاستعانة بنصوص لشعراء عرب ذوي قدرات عالية على صياغة كلمات مؤثرة بالفصحى العربية تتناسب وطبيعة هذه الألحان الغربية الكنسية في حين كان النموذج الثالث لموسيقى آلية في فترة لا يمكن للكثيرين تصور انتشارها في فلسطين وقتذاك هي للملحن والموزع لبناني الأصل فلسطيني المولد والنشأة يوسف بتروني المولود في يافا والمتوفى في بيرزيت وذلك ضمن إنتاجات مجموعة حجرة موسيقية كان يديرها داخل الإذاعة تحت اسم الأوركسترا الماندوليب هو الذي سبق أن عمل في إذاعة هنا القدس أيضا وله إنتاجات مهمة فيها أشار بولص إلى أنها بنيت كما كان سائدا بطريقة البناء الهارموني العمودي دون الابتعاد عن الأسلوب الاستشراقي في الألحان والأدوات الموسيقية المستخدمة والتي تقدم ما يشبه مقام الحجاز ما يعكس تنوع الأنماط الموسيقية التي كانت سائدة لدى الفلسطينيين قبل عام 1948 يقول بولص إن الفلسطينيين ما قبل النكبة بنوا نوعا خاصا بهم من الموسيقى الفلسطينية بالاتكاء على مفاهيم من المنطقة المحيطة مع إعطائها روح المكان الفلسطيني فيوسف رضوان مثلا كان يقدم المقام البغدادي أو المواويل العراقية بعد فلسطنتها إذ باتت مقامات أو مواويل سبعاوية نسبة إلى منطقة بئر السبع وكذلك الاستثمار في الموسيقى السائدة التي باتت تعرف لاحقا باسم الموسيقى الشعبية والفلكورية وتطويرها كموسيقى الريف والبادية في حين انقسمت الموسيقى المدينية إلى جزأين أحدهما يقدم الموسيقى الشرقية بأنماط متعددة بما فيها التخت الشرقي والآخر يركز على الموسيقى الغربية والحداثة لا على تطور الموسيقى بشكلها الذاتي