شارع الأعشى ممر القيم والتاريخ
هناك أماكن لا تمحوها الأيام، تظل راسخة في ذاكرة الأرض، كما يظل القمر شاهداً على تعاقب الليالي، لا ينطفئ بريقها مهما حاولت رياح التغيير أن تعصف بها. شارع الأعشى لم يكن مجرد طريق تُقطع فيه المسافات، بل كان درباً تسير عليه القيم، وكان صوته لا يُسمع بالكلمات، بل بصدى الأخلاق التي ترسخت فيه جيلاً بعد جيل. كان حياً بنبض أهله، نابضاً بالمروءة، لا يُخذل فيه محتاج، ولا يُهان فيه عابر، ولا يُغلق باب في وجه طارق. كان الرجال فيه صخوراً ثابتة، والنساء لآلئ مصونة، والأسواق ساحات تُقام فيها موازين العدل قبل أن تُرفع فيها سلع التجارة.
الرجال في هذا الشارع لم يكونوا رجالاً بالمظهر ولا بالقوة الجسدية وحدها، بل كانوا أعمدة تُشيَّد عليها الكرامة وسقوفاً تحتمي تحتها الشهامة. فالمروءة لديهم ليست اختياراً، بل هي هواء يتنفسونه وعباءة يتوشحون بها منذ ولادتهم. لا يُعرف فيهم غدرٌ ولا خذلان، فاليد التي تمتد بالعون لا تُسحب، والكلمة التي تُقال عهدٌ لا ينكسر. كانوا يدركون أن البيت الذي يُرفع بأعمدة الأخلاق لا يهتز أمام العواصف، وأن المرأة مرآة لمحيطها، فإن كانت العفة نهراً فهي منبعه، وإن كان الحياء كنزاً فهي حافظته. ولهذا حين كان أحدهم يبحث عن شريكة دربه، لم يلتفت للطرقات ولم يسأل العابرين، بل طرق باب الرجال لأنه يعلم أن نساءهم مرآة لهم، وأن البيوت الطيبة لا تنبت إلا زهراً نقياً.
أما النساء فكنّ كالماء، رقتهن ليست ضعفاً، بل حياة تتدفق بنقاء وحياء، يسير بهن في دروب العفة وكأنه ظل لا يفارقهن. كنّ كنسيم الصباح، لطيفات الحضور، لكن فيهن ثبات الجبال. لا يُسمع لهن صوت في غير حق، ولا يُرى منهن تصرف إلا في حدود الحياء. لم يكن الحياء لديهن زينة، بل كان أصلاً في الوجود، خيطاً يُنسج منه شرف العائلة وحجاباً يحمي القلوب قبل أن يحمي الوجوه. لم يكن الصمت عندهن عجزاً، بل هيبة، ولم يكن الحجاب مجرد قماش، بل راية ترفرف على حصن الكرامة.
في الأسواق، لم يكن البيع والشراء
أرسل هذا الخبر لأصدقائك على