زيف المنطقة الآمنة

٣٥ مشاهدة
الجمعة الرابع عشر من تشرين الأول أكتوبر لا أعرف كيف تتغير معطيات الوقت في الحروب ولا أعرف كيف تصير كل ثانية نعيشها تحت الصواريخ دهرا كاملا لا ينتهي ولا أعرف كيف أصير هرما كلما صرخت أختي الصغيرة بملء خوفها حين يباغتنا انفجار قريب لا أعرف كيف مضى هذا الأسبوع لو أننا لا نحب الليل لا نحب نجومه وسهره والعشق فيه والأغنيات لو أننا لم نكن نحبه لما تجمعنا مع العائلة في غرفة واحدة نضحك نخاف نقلق نبكي وننتظر موتا صعبا تحت سقف يضمنا ونحلم بأن نموت معا حين تبدأ الأحزمة النارية في دك قلوبنا يتوقف الوقت برهة نكتم أنفاسنا ونفتش عن ذرات الهواء المخنوقة لنشهقها فنزفر بعدها أعمارنا أريد للطفلة ألا تعرف سوى أحزمة الورد التي تطوق الجميلات وتعرف أن النار بدعة أريد للطفل الذي غرق في صدر أمه ألا تفزعه الصواريخ ليصير عاشقا يجيد العناق وأريد أن أتوقف عن تخيل عظامنا حين تباغتها الصواريخ التي نسفت أحياء كاملة نحن الذين من فرط سذاجتنا كنا نشعر بحرارة الأرقام الزوجية وألفتها لم نكن نستحق كل هذه الوحدة وأريد للفلسطيني أن يعيش فليس ثمة موت يغيظ العدى كل روح منا متراس في حرب الوجود والخسارات كبيرة طوال هذه المدة كنت أحاول مع الصغار فقرأت لابنة عمي قصصا أهدتني إياها مايا أبو الحيات حين التقيتها في رام الله لم أكن أعرف أن قصصها ستكون حياة أخرى تحت الموت ليلة صعبة أخرى تمر أستيقظ باكرا أفتش عني أتحسس أعضائي كلها ما زلت حيا أو ربما ظاهرا قد بدا ذلك أسمع جلبة في الخارج وأسمع صوت أمي تسأل ملناش حد في الجنوب وين نروح إيش في اسمع استطاع جيش الاحتلال ضرب الجبهة الداخلية المعدومة في الأصل واستغلال خوفنا وتوقنا للأمان حين اخترق أثير الإذاعات المحلية في غزة وبدأ يبث من خلالها أوامر غريبة للنزوح إلى المنطقة الآمنة جنوبي وادي قطاع غزة أطل على حارتنا فأجد أهل الحارة يدورون في دوائر الحديث والحيرة وين نروح لو أنني لا أعرف تاريخ اليوم لقلت إنها النكبة هي ذاتها في تفاصيلها لكن كيف للقاتل أن يحدد مناطق آمنة يقع بيتنا على مقربة من شارع صلاح الدين الشارع الذي يربط شمال القطاع بجنوبه حيث كان يخرج النازحون نحو الجنوب نحو وجهات لا يعرفونها وتيه لا يعرفون نهايته الأعداد الكبيرة من النازحين كانت تشعرنا بخطورة الأمر كما لو أننا سنبقى وحدنا في المدينة فزاد القلق والتوتر نضل لأ نطلع وين نروح المهم ما نخسر حدا إذا طلعنا مش هنرجع هيودونا على سينا المهم ما نشرب حسرة حد يومين وبنرجع كل تلك الحوارات كانت تدور في صالة البيت الأمهات يبكين والأطفال أيضا والكل غارق في حيرته وأنا كنت أكثرهم حيرة ويقتلني سؤال النكبة والهجرة تقتلني السردية الفلسطينية التي تكرر نفسها بعد أكثر من خمسة وسبعين عاما من النكبة ذات العدو وذات النزوح حتى جملة يومين وبنرجع التي قالتها أمي لأبي في محاولة منها لإقناعه كانت كفيلة بأن تذكرني بآمال الأجداد التي لم تتحقق لا تسألني عن الرقم الذي تبدأ عنده المجزرة كل نفس تموت منا مجزرة لا شيء يحصل صدفة تقول أمي فحين اتصلت إحدى قريباتنا تدعونا إلى بيتها في النصيرات كان حتما علينا أن نوافق فقد صار لنا وجهة هناك وجهة في تيه لا آخر له جهزوا الشنطات يقول أبي كم كان الفلسطيني وحيدا أمام فكرة البيت وهو يحاول تلخيصها في حقيبة ونحن الذين من فرط سذاجتنا كنا نشعر بحرارة الأرقام الزوجية وألفتها لم نكن نستحق كل هذه الوحدة ماذا سأضع في حقيبتي وماذا سأحمل من ذكريات لم يكن لدينا وقت لنجمع ضحكنا روائحنا فالشمس على وشك المغيب والليل يكشر عن ناره أخرجت سريعا حقيبتين حقيبة لبعض الملابس وحقيبة أخرى للكتب والإهداءات وبعض التذكارات كل مرة نحمل أكثر الأشياء أهمية هكذا كنا نعتقد وننسى أرواحنا في البيت جهزتهما سريعا واختليت بالبيت لأودعه بيوتنا أوطان صغيرة فيها مشينا خطونا الأول وتهجينا مفردات البلاد كانت كلها بلاد تحوي ضعفنا وبكاءنا أسرارنا وأحلامنا مشيت إلى غرفتي مددت نفسي لآخر مرة على سريري غرقت في وسادتي أنا لا يزورني النوم إلا على سريري فكيف سأنام على غيره سريعا تجهزت كانت كل العائلة تجهز نفسها للتيه أبي يحاول الاتصال بأي سيارة دون جدوى أعداد النازحين كبيرة حد أننا لم نجد سيارة واحدة لتحملنا هناك وبعد أن نجحنا في توفير سيارة نقل تابعة للبلدية يقودها أحد الأقارب نجحنا في تأمين نصف العائلة وبقينا نحن النصف الآخر ننتظر الشمس على وشك السقوط ونحن لم نجد أي سيارة تحملنا إلى هناك بعد وبعد انقطاع الأمل فجأة يطل علينا أحد أصدقاء العائلة في سيارة إسعاف يعرض علينا الركوب معه كانت سيارة الإسعاف صغيرة جدا لأن تتسع لنا نحن الثمانية بالإضافة إلى أربعة من عائلة أخرى حالة تشبه دخول علبة سردين كنت صامتا أحاول فهم ما يجري كيف غادرت البيت بهذه السهولة كيف تركت أحلامي الخضراء تحت وسادتي ورحلت لو أنني أعرف أن آخر مرة نمت فيها على سريري ستكون الأخيرة لما نمت لبقيت أتأمل تفاصيل البيت وذكرياتي لو أنني أعرف أن آخر مرة نمت فيها على سريري سأستيقظ بعدها على جنون الحرب لما نمت لكنني كنت أتجهز لمحاضرة جامعية مهمة عند الثامنة صباحا في طريق صلاح الدين كنت أرصد النازحين والدمار الهائل الذي خلفته طائرات الاحتلال وسمعنا صدفة أن الاحتلال استهدف سيارات النازحين على طريق صلاح الدين فلم نصدق ربما كنا نريد أن نكذب نفسنا لنصدق كذبة الأمان حتى وصلنا إلى طريق وادي غزة وأنت تنعس في السيارة على حافة النافذة يلاطفك الهواء وتذوب في حضرة المشهد وأنت تنتقل بين مشاهد الشوارع والأشجار والبنايات الملونة تذكر أنني شاهدت من نافذة سيارة الإسعاف أجسادا محروقة في السيارات منتوفة أجسادها مشتعلين في سياراتهم كما لو أن أحلامهم مادة قابلة للاشتعال وهم يطاردون النجاة يطاردون وهم الأمان الذي شكله الاحتلال كانت تقول أمي فش إشي بصير صدفة فذهابنا إلى المنطقة الآمنة بسيارة إسعاف والأجساد الممزقة التي شاهدناها تحترق في طريق صلاح الدين ونحن ذاهبون إلى منطقة آمنة حددها احتلال يشرب نخب دمائنا منذ خمسة وسبعين عاما لم تكن صدفة أيضا ثلاث مرات نجوت فيها من الموت مرتين وأنا في السوق ومرة حين استهدف الاحتلال مخبزا هناك حينها كنا نسمع صوت العاملين في المخبز وهم عالقون في النار لا أحد يستطيع الوصول إليهم وهم يصرخون يا عفو الله الحقونا الحقونا غاب صوتهم ولم ينقذهم أحد عدنا إلى البيت بعد عشرة أيام قبل أن يفصل الاحتلال شمال القطاع عن جنوبه لأعيش بعدها أسوأ ما يمكن أن يعيشه إنسان من مجاعة واقتحامات برية مستمرة خلال ذلك شاهدت كيف تدمر المدينة وكيف يستهدف تاريخها تكبر المدن على مهل عصفور يتعلم الطيران تحمل تاريخها فوق جناح وحاضرها فوق آخر لتطير بعدها في المستحيلات تكبر المدن على مهل صخرة تحفظ عطر البلاد وأهلها تحاول حفظها فيتشقق الصخر زرعا تلك مدن فتية أعمارها الدهر كله تركض نحو ذواتها ركضة غزال لا يتوقف يجمع هواء البرية كلها ويزفر أخيرا ما يريد كنت محظوظا جدا بوجود بيت جدي في البلدة القديمة في غزة ما جعلني قريبا جدا على أهم العناصر الأثرية والتاريخية هناك فنشأت بين المسجد العمري الكبير وقصر الباشا وسوق الذهب والأسبطة والبيوت القديمة حالة تشبه أن تبدأ فلسطينيتك من أول التاريخ والنشأة وحظ صار الآن سكينا يحفر في الحنين باسم الذكريات كان المسجد العمري الكبير رئتنا التي نتنفس من خلالها هواء بلادنا المحتل نشعر تحت أقواسه بريح القدس والأقصى لدينا جيل كامل لم يزر القدس مرة في حياته وكان يراها كل يوم في باحات المسجد العمري وأقواسه وحجارته القديمة كنت محظوظا يوم زرت القدس في أيلول سبتمبر 2023 قبل الحرب بأيام مشيت وحيدا في أزقتها ووصلت إلى قبتها المذهبة كان لا شيء يضاهي جمالها وما هون علي قليلا مغادرتها وجود مسجد كالعمري في غزة لكن الحسرة كانت كبيرة حين هدم الاحتلال أجزاء كبيرة من المسجد فمن أين بدأت الحكاية تبدأ الحكاية في الخامس عشر من تشرين الثاني نوفمبر 2023 كانت الساعة الآن الحادية عشر ليلا الكل نائم أو ربما الكل يدعي ذلك كل خلد إلى رأسه بعد جولة جديدة من الصراخ الكل يخلد إلى نومه هنا حين يفقد قدرته على الخوف أصوات الانفجارات لا تتوقف ولا أقوى على استيعاب أن مع كل انفجار يسقط بيت على أهله وتموت فكرة كانت ستغير العالم وننجو كم مليء هو الإنسان بالأفكار والمشاعر والحنين لا تسألني عن الرقم الذي تبدأ عنده المجزرة كل نفس تموت منا مجزرة أصوات القذائف تعلو وتقترب أنظر إلى السقف أتخيله وهو يسقط على صدري يخنقني أعاتبك يا الله لماذا خلقت الغزي بأقدار الموت هذه ولم تعطه قدرة ليجمع الهواء وينجو بكل ما فيه لماذا قدرت لي أن أقف على الجبل قبل نصف شهر من الآن لأول مرة وتغمرني بهواء رام الله القادم من أمواج الغرب لماذا تتركني بعدها لقدر الاختناق كانت أمي تسمع الراديو حينها تنتظر انتهاء هذا الجنون أذكر أنها أغلقته بحنق حين سمعت أحدهم يقول بعريية فظة نحيي شعبنا الصامد كانت الساعة الحادية عشرة ليلا الكل غارق في احتمالات موت صعب حين رن هاتف فجأة رقم خاص يرن على هاتف أمي والكل يعرف أن خلف تلك الأرقام وبالا ما هرعت أمي إلى الصالة التي أنام بها مع أبي وأخوتي وأعمامي تزج الهاتف في حضن أبي رقم خاص رقم خاص يا ساتر الكل خرج من غرفه حينها وأكد فكرة اللانوم حمل أبي الهاتف بتثاقل كبير وأنا أنظر إلى السقف الذي لم أنته من حديثي معه ألو جوز نجوى معي كان سهلا وقتها أن ترى حدقات أمي تتسع خوفا نجوى صحيح أنت بتعرف إنه جيش الدفاع صار قريب عليكم عشان هيك معاكو 24 ساعة تطلعوا من أماكنكم نحو المنطقة الآمنة جنوب وادي غزة لإنه حنكسر منطقتكم تكسير تصبح على خير كأن شيئا لم يكن ضجيج العائلة الذي توقف حين أوعز أبي إلى الجميع بالحديث في الأمر صباحا لم أكن أسمعه كان لا يزال صوت المجرم في أذني يحفر في الأسئلة حنكسر منطقتكم تكسير تصبح على خير تصبح على خير اتصال الاحتلال يومها لا يبرر له فعلته أبدا وذكرها في القصة لا يبرئ الاحتلال كيف استطاع أن يجمع حنكسر منطقتكم تكسير وتصبح على خير في جملة واحدة كيف وهو الذي دمر حارتنا وقتل الأصدقاء رغم أن أعمامي نزحوا إلى الجنوب مرة أخرى لم ننزح لن نعيش الكذبة مرتين نزحت إلى بيت جدي في البلدة القديمة وكان هذا النزوح الثاني حين باغت الاحتلال البلدة القديمة كانت ليلة الاقتحام مليئة بالنار والقذائف استيقظنا يومها بعد منتصف الليل ولم ننم لم يكن لديهم أية أهداف سوى التاريخ لم يكن لديهم أية أهداف سوى وجودنا الأبدي على هذه الأرض فاضطررنا إلى النزوح إلى منطقة غرب غزة حين قالوا إن الاحتلال دمر المسجد العمري لم أصدق كأن شيئا مني قد سقط شيئا من الذاكرة والطفولة من أنا ليغادرني التاريخ دفعة واحدة هكذا ومهما أعادوا بناء الأماكن فمن يعيد عطر القدامى في الحجارة مررت الأسبوع الماضي على البلدة القديمة والحقيقة أنني كلما مررت اكتشفت دمارا جديدا ووجعا أشد فحين تتبعت خطو الدبابة عرفت أن الجيش تمركز في قصر الباشا ذات المكان الذي بات فيه نابليون بونابرت وجنوده بعد هزيمته في عكا كان التاريخ الذي أراد الاحتلال طمسه يقول لنا شيئا شاعر من غزة

أرسل هذا الخبر لأصدقائك على

ورد هذا الخبر في موقع العربي الجديد لقراءة تفاصيل الخبر من مصدرة اضغط هنا

اخر اخبار اليمن مباشر من أهم المصادر الاخبارية تجدونها على الرابط اخبار اليمن الان

© 2024 يمن فايب | تصميم سعد باصالح