باسم خندقجي 3 زمن البوسطة
صرخ السجان بصوته المعدني الخالي من أي إنسانية قد تشي بأن ثمّة صباحاً يلوح في أفق يوم من أيام الأسير الفلسطيني في سجون الاستعمار الصهيوني، صرخ في الوجوه الشاحبة والمنهكة من الجوع والبرد: استعدّوا أيتها البهائم البشرية لكي تصعدوا إلى البوسطة.
بضعة أسرى محشورون في زنزانة ضيقة ومقيّدون من أيديهم وأرجلهم، قرّر السجان في لحظة منزوعة الإنسانية أنهم بهائم بشرية، هكذا أباد هويتهم وملامح وجوههم التي تشبه ملامحه هو، لكي ينأى بضميره الغائب عن وعي الأخلاق عذابات أولئك الذين سيقتادهم نحو البوسطة في طريقهم إما لينقلوا إلى سجن آخر، أو إلى المحكمة العسكرية.
وأما البوسطة فهي تلك الحافلة التي إذا ما رآها المارون والعابرون من جانبها سيجدونها حافلة سياحية فاخرة، ولربما سيحسدون المسافرين بها من ركاب وسياح، غير أنهم لو أُتيحت لهم فرصة الصعود إليها لفرّوا فزعين من قسوة الحديد والقيود والعتمة في داخلها، إذ هي البوسطة، هكذا يسمونها بالعبرية الصهيونية، ولو أن فيروز الصباحية البهية علمت بذلك لما غنّت أغنيتها الشهيرة عهدير البوسطة، والتي يقوم الأسرى الفلسطينيون غالباً بغنائها وترديدها في رحلة العذاب في دروب العالم الصهيوني الكولونيالي، رغم فظاعة المقاعد الحديدية والقيود والنوافذ المغلقة والمسدودة بالصفيح التي تتخلّله ثقوب صغيرة لا تكاد تكفي لسد لهفة عين الأسير لكي يرى العالم منها وبلاده المستعمَرة.
لتبدأ الرحلة، رحلة العذاب والمعاناة بعد أن يتلقّى الأسرى بطبيعة الحال المتوحش للسجانين سيلاً من اللكمات والشتائم قبيل صعودهم لأخذ مقاعدهم الحديدية، حيث يشرع الأسرى في مواساة وتفقد بعضهم البعض، وإذا ما أصيب أحدهم بإصابة بالغة أو رضوض مؤلمة، بلى ليسوا بهائم أولئك الذين يؤازرون بعضهم البعض ويغنّون فيروز رغم الألم، ليسوا بهائم أولئك الذين يسترقون النظر من الثقب الصغير لنافذة البوسطة، محدّقين في بلادهم وأرضهم المسلوبة والمغتصَبة، وفي كل تحديقة يقترب الأسير المنهك من الضرب والجوع والبرد الحديدي ويدنو من حريّته المشتهاة، حيث ينعتق من زمن البوسطة وآلامها ومن مسرب يخترق زمن المستعمِر ويوميات واقعه الذي لا يتوخّى فيه سوى السيطرة واحتجاز زمن
ارسال الخبر الى: