يجمع المراقبون للشأن الفرنسي على وجود انحراف سلطوي لافت لدى أجهزة الدولة الفرنسية والتي باتت تتجاوز وظائفها وصلاحياتها بذريعة الدواعي الأمنية فارضة طوقا خانقا على المسلمين في هذا البلد فحكومات الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون المتعاقبة منذ توليه السلطة في سنة 2017 ضيقت الخناق على المسلمين ونظرت إليهم بعين الريبة وكأنهم مواطنون من درجة ثانية وإلى جملة العوامل التي أدت إلى تكلس الجمهورية واحتمائها بالذرائع الأمنية يعود الباحث حواس سنيقر في كتابه الجمهورية المتسلطة إسلام فرنسا والوهم الجمهوري 2015 2022 من أجل تحليل أسباب هذا الانحراف وتفكيك مظاهره ونتائجه ينقسم الكتاب الصادر عن منشورات Le Bord de leau عام 2022 إلى اثنين وعشرين فصلا إلى جانب المقدمة والخاتمة تتناول جميعها مظاهر التدخل المفرط لجهاز الدولة الفرنسي بما في ذلك قمة سلطتها في محاصرة ما تعتبره الجمهورية أصل الشر ومصدر تهديد لوجودها ومقوماتها فمنذ القرون الوسطى كان ينظر إلى الإسلام في مغايرة مطلقة تتناقض كليا مع القيم التي تأسست عليها الأنظمة الزمنية الغربية في الحكم والتقييم ومما زاد هذا التوتر الربط جزافا بين الإرهاب والإسلام والازدراء المبالغ فيه للتشدد الديني والذي لم ينتج إلا تشددا أكبر وأشمل كما أن الإرث الاستعماري وجروحه وندوبه ما زالت تشكل عقدة متواصلة تؤثر في هذه العلاقة يعاين ترهيب مسلمي فرنسا والتضييق عليهم ومعاملتهم كمشتبه بهم وهكذا تتوالى فصول الكتاب لتحلل كافة مكونات المشهد السياسي الفرنسي في علاقته بالإسلام باعتباره عنصرا ثقافيا ودينيا ومكونا لهوية عدة ملايين من سكان فرنسا ومصدر القيم لديهم وهو مشهد شديد التعقيد لأنه يتألف من عناصر متباعدة في الزمن بعضها يعود إلى عقود القرن الماضي وبعضها الآخر إلى المخيال الأوروبي الإسلامي الذي انتسج طيلة القرون الوسطى والذي سبق للمؤرخ التونسي هشام جعيط أن فككه في كتاب أوروبا والإسلام 1978 ولا يزال هذا المخيال يؤثر في هذه المواجهة المستمرة بعد أن غدا الإسلام جزءا لا يتجزأ من فرنسا ومكونا ديموغرافيا لا يستهان به كما يخصص سنيقر بعض الفصول مثل الفصلين الرابع والخامس لوصف تمشيه المنهجي القائم على المقاربة الاستقرائية حيث لجأ إلى البحث الميداني المكثف مستعينا بأدوات من العلوم السياسية ومناهج علم الاجتماع لتكون محاولته هذه مبنية على أسس راسخة وتدور بقية الفصول حول العلاقة بين الدولة والقانون والمجتمع في فرنسا إبان العقد الراهن حيث غالبا ما يفلت القانون من يد الجهاز ويتحول إلى عصا أمنية ترفع في وجه ما تعتبره الدولة تهديدا لأمنها ولمصالحها كما سبق وأن حلل ميشال فوكو هذا الإفلات وهذا عين ما حدث في فرنسا منذ 2015 حيث عاين سنيقر الإفراط في استخدام الترهيب وتكميم الأفواه وبسط السيطرة خاصة في أوساط المسلمين الذين يعاملون كمشتبه بهم حتى يثبت العكس كما عاد أستاذ العلوم السياسية في معهد العلوم السياسية بمدينة ليون إلى تحليل الخطاب الذي تروجه وسائل الإعلام وجهاز الأمن ويعتمده الساسة في خطاباتهم ومداولاتهم وعلى رأسهم وزراء الداخلية فضلا عن بعض المثقفين والإعلاميين والأكاديميين وكلهم يتخذ من الشأن الإسلامي موضوعا للنظر والتأويل ويتضح من خلال تحليله أن الريبة هي السائدة إذ لا يسمح للإسلام شعائر ومبادئ بالظهور في الفضاء العام إلا بالقدر الذي تراه السلطة مناسبا وهو مقدار ضئيل يتناقص باستمرار بحجة التهديد الإرهابي ومخالفة القانون وعدم التوافق مع قيم الجمهورية يضيء انحرافات السلطة السياسية وتوجهاتها العنيفة كما شمل تحليل الخطاب بعض ما يصدره رؤساء الأحزاب والجمعيات والوزراء وحتى الرئيس خصوصا في خطابه بمدينة ميلوز في الثامن عشر من شباط فبراير 2020 حيث أعاد ماكرون طرح مصطلح الانفصالية الغامض الذي أصبح تهمة قانونية توجه لأي سلوك لا يتماشى مع القوالب الضيقة التي يرسمها النظام الأمني وهي معايير اعتباطية تتغير حسب الفصول والغايات وقد كانت منهجية حواس سنيقر في هذا التحليل ترتكز على إظهار التناقضات العميقة التي تكشف ضعف هذه المواقف وتفضح هشاشتها أمام النقد رغم فرضها بمنطق القوة والتسلط وفي هذا السياق يتوافق الكاتب مع تمييز كلود ليفور بين الدولة والسلطة السياسية أي بين الجهاز القائم الذي يضمن التماسك الاجتماعي كما حلل تجلياته بعمق المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه مفهوم الدولة وبين استغلال السلطة السياسية من قبل الحكومة في فترة زمنية معينة استغلال قانوني يدعمه سند حزبي وحتى عسكري لتحقيق أهداف قد تتحول إلى إفراط وتسلط أو حتى استبداد وهو ما يمارس الآن على مسلمي فرنسا الذين يواجهون تضييقا متزايدا خاصة بعد أحداث السابع من تشرين الأول أكتوبر 2023 حيث اختلط التعاطف مع فلسطين بـمعاداة السامية وارتبطت هذه الأخيرة بمشاعر معاداة الأمة وكراهية القيم الجمهورية وحتى الرغبة في الانفصال وهي انزلاقات خطيرة تتهاوى إلى توصيفها أجهزة الأمن وتستغلها أحزاب اليمين المتطرف يحيل هذا الكتاب بكثرة إلى رموز الفكر السياسي والسوسيولوجي الحديث حيث وفرت هذه المفاهيم أدوات تحليل علمية لفهم العلاقات بين هذه الظواهر المتشابكة وتفكيكها لكن يلاحظ غياب شبه تام لتحليل الخطاب والنظريات اللسانية مما جعل الكتاب يفوت تفكيك معاني المصطلحات المركزية في خطاب المسلمين مثل الشريعة والعلمانية والتوافق مع السلطة والتطابق مع التراث وغيرها كما يفهمها المسلمون من خلال كتاباتهم وحواراتهم وكما يوظفه كل طرف من مصطلحات تختزن أيضا صراعات ومنافسات رمزية ولا شك أن التحليل السياسي كان ليكون أعمق وأثرى لو غذي أكثر بتحليل الخطاب في صيغه العربية وتفكيك المفاهيم الفاعلة لدى كل طرف ومع ذلك يعد هذا الكتاب موقفا جسورا واجه فيه مؤلفه انحرافات السلطة السياسية وتوجهاتها العنيفة بالتحليل العلمي المدعوم بالوثائق والمستند إلى الوقائع التي جرت في فرنسا منذ عام 2015 حتى اليوم تعتبر هذه الانحرافات التي لم تتوقف بل تسارعت وتيرتها بحجة الحفاظ على السلم الاجتماعي وهيبة الدولة لصيقة بأي جهاز يشعر بالضعف ويعيش أزمة داخلية فيلجأ إلى التصعيد الأمني وخنق الحريات لفرض السيطرة وجعل الدولة فوق القانون وقد نجح حواس سنيقر في تصوير هذا الانزلاق الخطير من دون الوقوع في فخ الالتزام السياسي الضيق أو الارتهان لمقولات جماعية أو هيئات محددة حيث التزم بحرية البحث وصرامته مما شكل حصنا له ضد أي تحيز فهل ستكون مثل هذه الكتابات الجريئة قادرة على التأثير أم أنها ستؤدي إلى تشديد الخناق أكثر بدعوى أن البحث العلمي قد تأسلم هو الآخر وصار بأيدي باحثين قد يرمون بالتشكيك في قيم الجمهورية كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس